مدينتي .. تلد صغارها في العراء للمرّة الألف بعد المائة .. قصّة قصيرة بقلم...وليم فوسكرجيان /فلسطين
مدينتي ..
تلد صغارها في العراء
للمرّة الألف بعد المائة ..
قصّة قصيرة
بقلم...وليم فوسكرجيان /فلسطين
..........................
=====
للمرّة الالف بعد المائة ، ها أنذا في شوارع وطرقات وحارات وأزقّة مدينتي الّتي لا تنتهي ..
إنّها ساعات الصّباح الأولى ليوم آخر .. موعدي مع مدينتي لنكتب عاشرة وعشرين .. عن الشّمس اّلتي تشرق ثانية.. والرّجال الّذين يرحلون عنوة .. نحو الآخرة ، والجبال البعيدة ..
-----
يا مدينتي الّتي تلدين أطفالك في العراء .. للمرّة الألف بعد المائة ..
ها أنذا هنا .. باق هنا .. كمنازلك ..
وشوارعك ..
وطرقاتك ..
وحاراتك ..
وأزقّتك ..
حجارتك ..
ترابك ..
هوائك ..
أرضك ..
سماؤك ..
أنهارك الاربعة ..
بحرك الكبير ..
وأطفالك الّذين يأتون بابتساماتهم الوادعة تلك ليملأوا بها .. صدور الرّجال ، وكلّ الآخرين .. .
-----
للمرّة الألف بعد المائة ، هأنذا أسير أسير في شوارع وطرقات وحارات وأزقّة مدينتي الحزينة أبدا ..
والكثير من وشوارع .. وطرقات.. وحارات .. وأزقّة مدينتي الحزينة أبدا ..
تنام اللّيل .. ومنذ أيام الطّوفان الاولى .. وحتّى يومنا هذا .. مستلقية هناك ..
بين أنفاسي .. وذراعيّ .. وأحلامي التي لا تنتهي .. وعندما تلوح في الأفق تباشير صباح آخر ، تفتح عينيها الزرقاوين ..
وبعد لحظات أخالها دهرا ، تطلق العنان لتنهداتها الكبيرة والصّغيرة .. وتلتقي نظراتنا .. لتهمس بعد ذاك في اذنيّ الوالهتين
بتحيّة الصّباح،وهي ترتشف من شفتيّ.. بعضا من أنفاسي الوالِهَةِ والملتهبة .. -----
بعد أن تغسل وجهها الحزين أبدا .. ببعض قطرات المطر الّتي تجدها وكالعادة .. في أحد جيوب سترتي العتيقة ، وتلقي ما تبقى من خيوط اللّيل العالقة بثيابها.. في إحدى زوايا غرفتنا الصّغيرة الوحيدة تلك ، تقترب منّي ثانية ، لتمسك بيديّ ، ولتعانق عيناها عينيّ .. وكالعادة ..
وبعد أن أشاركها في تناول بعض الطعام ، تهمس في أذنيّ ببعض الكلمات ، ثمّ تودعني بتلك النظرة الحانية ..
أفتح لها الباب الخشبي ّالذي يفصلنا عن العالم كلّه ..
تطلق العنان لساقيها القويتين لتندفع عبره .. بجسدها ..
وأنفاسها ..
ونظرات عينيها ..
وخطواتها ..
يمينا .. وشمالا .. وجنوبا .. وغربا .. حتّى تصل النّهر الّذي يحيط المدينة .. من الجهات الخمس ..
فعمّا قليل ، سوف يستيقظ العملاء ..
والمأجورون ..
ورجال الشرطة الكريهين ..
والجنود ذوي القبعات المتجهمة ..
والغرباء ..
واللصوص ..
والقتلة ..
والمنبوذون ..
ورجال ونساء العالم السفليّ ..
ورجال ونساء العالم العلويّ ..
-----
ودواب المدينة ..
وقططها ..
وكلابها ..
وجامعو القمامة ..
وماسحو الأحذية ..
والقصّابون ..
والباعة المتجولون ..
والشرفاء ..
والنبلاء ..
والجبناء ..
والمقتولون حديثا ..
والمقتولون منذ قرون وقرون ..
-----
ورجال الدّين على المذاهب الأربعة .. والبوذيون ..
والبراهمة ..
والشعراء ..
والادباء ..
والمشعوذون ..
ومفسرو الأحلام ..
وبائعو وبائعات الهوى ..
والنخّاسون ..
والمتسوّلون ..
والأغنياء ..
والاغبياء ..
والفقراء ..
والمتكبرون ..
والضّعفاء ..
-----
والّذين لم تمسّ أنامل أيديهم .. جسد امرأة بعد .. واللّواتي لم تمسّ أنامل أيديهنّ .. جسد رجل بعد .. واولئك الّذين يمشون على ثلاث أو اربع .. والّذين يلتحفون السّماء ليلا ، ويفترشون الأرض نهارا..
والّذين لا نساء ، ولا بيوت .. ولا أحلام لهم ..
والّذين سيرحلون اليوم .. وأمس .. وغدا .. واّلذين يعبدون الله نهارا ، وفروج نسائهم ليلا .. والذّاهبون لتطليق زوجاتهم اللّعينات عند حاكم المدينة..
والذاهبات لتطليق أزواجهنّ السّفهاء عند حاكم المدينة.. .
وصانعو توابيت الموتى ..
وقاتلو الذّباب والبعوض ..
واعدائي الّذين يكرهونني ، والّذين أكرههم ..
-----
ورجال القصر..ببزّاتهم المزركشة ، وكروشهم المنتفخة..
والهاربون من وجه العدالة .. ورجال القضاء من .. كتبة ..
وعشّارين ..
وسعاة ..
وجواسيس ..
وخدم ..
وحشم ..
وقضاة ..
ومحامين ..
وشهود زور ..
ومأجورين ..
-----
والّذين يخرجون من قبورهم الأبدية ، لاطفاء شهواتهم الرعناء.. عند بضع مومسات ينتظرن أبدا هناك .. عند تلك الزاوية اللّعينة من مدينتنا التي تمقت تمقت أن يحدث ذلك ..
والّذين خرجوا أخيرا من زنازين الآخرة .. والعربات الّتي تجرها الثّيران نحو الحقول البعيدة .. وأشعة الشّمس الحارقة ..
وذريّة يأجوج ومأجوج ..
وخفراء اللّيل والقبور ..
والّذين لا يعرفون القراءة والكتابة ..
والّذين يعرفون القراءة والكتابة ..
والشيوخ ..
والحوامل ..
والعواقر ..
والرجال ..
والنساء ..
والاطفال ..
وآخرون.. وآخرون .. وآخرون .. وآخرون ..
-----
يستيقظون كالعادة ..عند صياح دِيَكَةِ المدينة اللّعينة..
وعندما تلوح في الأفق .. تباشير صباح يوم آخر.. ليملأوا .. حارات مدينتي ..
وأزقّتها ..
وشوارعها ..
وطرقاتها ..
وأرصفتها ..
وأرضها الّتي تمتدّ .. هناك وهناك وهناك وهناك .. حتّى النّهر الّذي يحيط بمدينتي .. من الجهات الخمس ..
----- .
للمرّة الالف بعد المائة ، ها أنذا أسير وأسير.. في طرقات وأزقّة مدينتي الّتي لا تنتهي ..
أتصفح بعينيّ المارّة ..مارّة لا تبدو ملامحهم أنّهم من أهل مدينتي الّذين أعرفهم ، والّذين يعرفونني ..
وجوه صفراء .. قاحلة الملامح ..
أنوف مدببة ..
شفاه غليظة .. تتدلّى إلى أسفل الخاصرة ..
وعيون كبيرة .. مليئة بصور موتى .. وآخرين ..
لا رمال هنا يمكن ان تزرع في ذاكرتها آثار خطوات أرجلهم المتجهّمة ..
إسفلت أسود ، وحجارة لا شكل لها .. مزروعة هنا وهناك .. ستقوم بهذه المهمّة اللّعينة .. وكما يبدو ..
-----
ملاحظة: مارّة من العالم الآخر ..يأتون إلى مدينتنا بين فترة وأخرى .. ولسنا نعرف لماذا يفعلون ذلك .. حتّى يومنا هذا ..
-----
المحلاّت مغلقة عن بكرة أبيها .. أبوابها ونوافذها مغلقة ..
وأولئك الّذين يملأون كل يوم .. شوارع وطرقات وأزقّة وحارات وطرقات مدينتي .. يقبعون اليوم في بيوتهم ..
يصلون اللّيل بالّنهار، والّنهار باللّيل.. وهم يجترّون .. حقدا قاتلا لا ينتهي ..
وبضع أكياس من القمامة .. تتكىء بوقاحة هنا وهناك وهناك .. على جدران تمتدّ حتّى النهر الذي يحيط بمدينتي من الجهات الخمس .. .-----
رجل .. وكالعادة..يجلس هناك .. ومنذ أكثر من مائة عام .. وبين ذراعيه وقدميه اللّتين لا تعرفان الرّاحة والمحشورين في حذائه اللّعين ذاك ، كيس خيش باهت اللون، وملىء ببضاعته الرخيصة ..
لا مشترون اليوم ولا باعة ، ولا رجال ضرائب ، وعشّارون ، وعسس ، يصولون ويجولون فوق جثث قتلاهم .. وكما يحدث منذ سنين وسنين ..
لكنه يجلس هناك وكالعادة .. ربّما .. ربّما مرّ أحد من زبائنه القدامى ، أو المعتوهين ، وطلب .. جوربا ..
حذاء ..
ملابس وقد تركها أصحابها بعد أن رحلوا إلى الآخرة..
لوحة اعلانات ..
ربطة عنق ..
أو امرأة .. لم يمسسها جسد رجل بعد ..
-----
وعظام مكسوة باللحم المترهّل ،وملطّخة بدماء صفراء، ويشوبها بعض الصدأ والعفن .. ملقاة هناك .. عند تلك الزاوية ،وقرب قدميه اللّتين لا تعرفان الرّاحة ، والمحشورين في حذائه اللّعين ذاك .. تنتظر من يشتريها .. ولو بشواقل قليلة ..
إنّه علف .. يقدمه الرّجال إلى ذوات الأربع الّتي لا تعرف .. غير البحث عن طعامها ، وإناث تتمارس البغاء معها .. والزحف على يديها وقدميها .. وانتظار اليوم الّذي سترحل فيه عنوة عن مدينتنا .. تبا لكم يا جامعي القمامة في كل زمان ومكان .. أين أنتم .. أاين اختفيتم ..
-----
صناديق قمامة .. يرتدون وجوها متجهّمة.. يقبعون كالكلاب الضّالة هناك..عند ذلك المنعطف .. ينتظرون وكالعادة ..
الرّجال والفتية الّذين يحملون قتلاهم وموتاهم في صدورهم ، وهم متوجّهون
وقبل انبلاج الفجر.. إلى مدافن المدينة الّتي تقبع هناك خفية .. فوق التلال الّتي تمتدّ ..حتى البحر الأزرق العينين ..
-----
وتتدفّق ريح باردة ..
في طرقات وأزقّة مدينتي الحزينة أبدا ..
سحب سوداء ، وأخرى لا لون لها .. تملأ الأفق فجأة ، وتغطّي قرص الشّمس الّذي يرتفع في السّماء البعيدة ..
أتطلّع إلى ساعتي الّتي تلتصق بساعد ذراعي الأيسر منذ أكثر من عشرين عاما ، وأعرف انّه .. قد آن الاوان ..
أغذّ الخطى مهرولا .. نحو غرفتي الصّغيرة والوحيدة نلك.. وكالعادة ..
-----
فعمّا قليل ، ستغلق السّماء أبوابها ، والأرض سوف تغطّ في رعبها الملعون بعد أن تغمرها .. ظلال ليل كريه آخر ..
والرّيح الباردة ستملأ ..
شوارع ..
وطرقات ..
وحارات ..
وأزقّة مدينتي الّتي لا تنتهي ..
والمارّة الذين سوف يتجرؤون ويتجوّلون في طرقات وأزقّة مدينتي ، لا بدّ ان يلتقوا .. بالرّجال الّذين يرتدون ملابس الحرب دائما .. الذين لن يتركوهم بسهولة..
لن لن يتركوهم بسهولة ..
-----
مدينتي .. تطلق من فمها ..
وشفتيها ..
ورئتيها ..
وصدرها ..
صرخاتها المتوجّعة وهي تلد أطفالها في العراء.. للمرّة الألف بعد المائة ..
شوارع ..
وطرقات ..
وحارات ..
وازقّة مدينتي الّتي لا تنتهي.. لا يأبهون للامر .. وكالعادة ..
وأعمدة الكهرباء .. المزروعة في الأرصفة والطرقات.. ما زالت تغطّ في نومها العميق .. منذ أكثر من عشرين عاما ..
وبعض المارّة .. يلتهمون جرائد قديمه .. قامت باعطائها لهم .. بعض صناديق قمامة منغرسة هناك على قارعة الطّريق ، ونظرات لا معنى لها .. تطل من أعينهم وشفاههم المترهّلة .. بطريقة .. لا تروق لي ..
وعجائز المدينة .. الأموات مهنّ والأحياء .. يطلقن الأدعية والتعاويذ .. من أفواههن ّالمترهّلة إلى ربّ السماء .. ليهوّن الأمر على مدينتنا الّتي تطلق
من فمها ..
وشفتيها ..
ورئتيها ..
وصدرها ..
صرخاتها المتوجّعة وهي تلد أطفالها في العراء.. للمرّة الألف بعد المائة ..
=====
تعليقات
إرسال تعليق