الظّلال الحزينة - قصة قصيرة - بقلم...فوز حمزة

 الظّلال الحزينة

- قصة قصيرة -
بقلم...فوز حمزة
.........................
قال لي بائع التّذاكر:
- أتذكّر أني رأيتكَ البارحة هنا، أليس كذلك؟
- نعم. لقد وصلتُ المحطة متأخرًا، فاضطررتُ لتأجيلِ الرحلة لهذا اليوم...
قاطعني مندهشًا:
- ألم تسمع نشرة الأخبار، ألم تقرأ الصّحف؟!
نفيتُ بهزةٍ من رأسي، لكن لم يمهلني طويلًا، إذ قال وكأنه يسردُ فيلمًا سينمائيًا:
- ليلة البارحة، وبعد ساعة من موعد الانطلاق، تعرض القطار لحادثة كبيرة أودتْ بحياة عدد كبير من الرّكاب بما فيهم السائق ومساعده وآخرين جرحى بين الموت والحياة!
وأنا ما أزالُ تحت تأثير الصّدمة أضاف:
- لقد توقفتْ جميع الرّحلات لإشعار آخر ..
وهو يهم في القيام من مقعده وغلق الشّباك قال:
- أنت محظوظ، أنصحك بذبح عجل كبير تقربًا إلى الله لنجاتك من الحادث!
وأنا في الباص شدّني منظر السّماء والشّوارع والبنايات وظلالها المائلة كأني أراها لأول مرة. شعرتُ بحنين جارف إلى أهلي والبيت الذي يضمنا والشّوق الأكبر كان لغرفتي المشمسة و نافذتها المطلة على مزرعتنا الكبيرة. أخذتني ولا أدري لماذا قشعريرة وأنا أتذّكر حصاني الرّمادي وكلبي الأسود وخرافنا الكثيرة.
تذكرتُ شاي العصر قرب النّهر وأنا متكئ على جذع شجرة الكالبتوس العجوز، أسندتُ رأسي على زجاج نافذة الباص وأغمضتُ عيني ببطء، فبدأتْ المشاهد تضمحل رويدًا رويدًا وتذوب.
استقبلني أهلي غير مصدقين أعينهم. لقد ظنوا حينما سمعوا بالحادثة أنني من ضمن الأموات أو الجرحى. قالت لي أمي وهي تقدم لي الشّاي والحلوى التي أحبها بينما عيناها مغرغرتين بالدموع:
- لولا أن زوجة الجزار كانت من الذين ماتوا في الحادث، لعملت لك احتفالًا كبيرًا لسلامتك وختمت حديثها:
- دعواتي لك هي التي جعلتك تتأخر عن موعد القطار!
كنتُ على وشك سؤالها عن الذين ماتوا في الحادث، ماذا عن دعوات أمهاتهم؟! لكني سكتُ كي لا يزعجها سؤالي ولأنها أيضًا انشغلت مع والدي الذي أجزم بما لا يقبل الشّك أنها إشارة من الله كي لا أسهو أو أنقطع عن الصّلاة ثانية.
وددتُ أن أسأله: هل الموتُ بهذه الطّريقة القاسية عقوبة عادلة لمن ينقطع عن الصّلاة؟!
سماع أصوات ولغط كثير جعل والدي يقفز من مكانه و يتجه صوب باب الدّار؛ إنهم أقرباؤنا وبعض الجيران، جاؤوا مهنئين على سلامتي، كل أحاديثهم كانت تدور على أنني شخص مبارك وذو كرامات وما نجاتي من حادثة القطار إلا دليل واضح على ذلك.
نظرتُ بتأنٍ إلى كل ما يحيطني، شعرتُ كأن رأسًا ثانية قد استبدلتْ برأسي. بدأتْ الأفكارُ تهاجمني دون رحمة، تحاول زعزعة إيماني بأشياء كانت من قبل راسخة وثابتة، قلت لنفسي بصمت: ربما هذا ما يجب فعله، عليّ إفراغ ما في رأسي من أفكار لاستقبال أخرى.
وأنا ما أزال أعاني الإرباك، دخل جاري الذي يعمل صحفيًا، سحبني من كوعي قائلًا:
- كنْ مستعدًا يوم الغد لأجري معك مقابلة صحفية؟
سألته:
- لماذا؟
أجاب بصوت فيه الكثير من الدهشة والاستغراب:
- لماذا؟! لإنك الناجي الوحيد، ما حدث معك يشبه ما نشاهده في الأفلام!
قاطعته:
- لكنّي لم أركب القطار، لقد تأخرتُ فقط!
- قال غامزًا بعينيه:
- لا تقلق، ليستْ مشكلة، سأرتبُ لك قصة مشوقة، هذه لعبتي...
قاطعته مرة أخرى:
- كم عدد ضحايا القطار؟
صمت قليلًا ونظرات عينيه تدور في الفراغ تبحث عن إجابة .. قال بعد أن مط شفتيه وبانت تجاعيد جبينه:
- لا أعلم بالضبط، لكنهم تجاوزوا الأربعمائة راكب .. هذا ما سمعته. لو كنت مكانك لصليت لله كل يوم ألف ركعة.
هل حقًا يحتاج الله إلى إنهاء حياة أربعمائة إنسان ليستجدي مني ألف ركعة؟! هناك إشارات أقل دموية بإمكانه إرسالها.
أردتُ إخبارهم أن ما حدث لا علاقة له بعناية السّماء، بل بإهمال أهل الأرض و استهتارهم بأرواح البشر، لكن صوتي كان ضعيفًا أمام ضجيجهم تلك اللحظة.
طلبت من أختي عند حلول المساء نقل فراشي إلى سطح الدار، كنت بحاجة لفضاء أوسع من أجل الأفكار التي تزاحمتْ في رأسي تحاول الفرار من سجنها .. بعد دقائق انشغلتُ عن كل شيء بالنظر إلى النّجوم التي ملأت السّماء والقمر المكتمل الذي سرعان ما حملني لعالم النّوم.
في الحلم وجدتني محاطًا بألواح خشبية تتكئ على بعضها البعض وثمة ظلال حزينة، لكنها حقيقية، لاحت لي من ثقوب صغيرة في تلك الألواح بينما صوت أمي وهي تولول جاءني متسللًا منها وهي تتساءل: يا ولدي لو ركبت القطار بدل الباص لكنتَ الآن حيّ بيننا !
قد تكون صورة ‏‏‏شخص واحد‏، و‏‏ابتسام‏، و‏دنتلة‏‏‏ و‏قلادة‏‏

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف