مقال... بقلم... أ.د. لطفي محمود منصور
مقال...
بقلم... أ.د. لطفي محمود منصور
.......................
وَإِذَا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا
تَعِبَتْ في مُرادِها الأجسامُ
هذا البيتُ من بَحْرِ الخفيف قاله أبو الطَّيِّبِ المتنبِّي، من قصيدَةٍ من جَيِّدِ شِعْرِهِ مَطْلَعُها:
أَيْنَ أَزْمَعْتَ أَيُّ هذا الْهُمامُ
يمتازُ شِعْرُ أبي الطَّيِّبِ بالْحِكْمَةِ، وضَرْبِ الأمثالِ، وقد سَبَقَهُ في هذا أبو تَمّامٍ حَبيبُ بنُ أَوْسٍ الطّائِيُّ.
أتَيْتُ بذَلكَ البيتِ لِحِكْمَةٍ فِيهِ عَظيمَةٍ، وهو مَثَلٌ أيضًا لِمَن وَصَلَ إلى المعالي وقد أنْهَكَ جَسَدَهُ، لكنَّهُ حَقَّقَ مُبْتَغاه.
لَيْسَ كُلُّ مَنْ كَدَّ وَجَهِدَ وَبَرَى جَسَدَهُ يَصِلُ إلى المعالي، فالعامِلُ البسيطُ يُتْعِبُ نَفْسَهُ وبَدَنَهُ، حتّى يُحَصِّلَ قوتَهُ وقوتَ عِيالِهِ اليومِيَّ، لَنْ يَصِلَ إلى المعالي التي يرتضيها الشّاعِرُ لمَمْدوحِهِ، مَعَ أنَّ عَمَلَ العامِلِ مِنَ الواجِبِ الشريف.
إذًا ما ذَا يعني أبو الطَّيِّبِ بالنُّفوسِ الكبيرَةِ التي تُنْحِلُ الأجْسادَ؟
النُّفوسُ كالأجسادِ فيها الكبيرُ وفيها الصغيرُ، فصاحِبُ النَّفْسِ الصَّغيرَةِ لَا يعرِفُ الطُّموحَ في شَيْءٍ، يَرْضَى بِالْبَلَلِ عَنِ الرِّواءِ، لأنَّهُ يفتقِرُ إلى الهِمَّةِ العالِيَةِ التي تدفَعُهُ إلى التَّقَدُّمِ والتَّطَوُّر، فيميلُ إلى التكاسُلِ ويسكتُ على الفاقَةِ، والدَّخْلِ القليلِ، وَمِنَ الممكِنِ أنَّهَ يمتلكُ القُدرات التي تقدِّمُهُ وتسعدُهُ وعيالُهُ. وفِي هذا يَقُولُ أبو الطَّيِّب: من الوافر
وَلَمْ أرَ في عُيوبِ النَّاسِ شَيْئًا
كَنَقْصِ الْقادِرينَ عَلَى التَّمامِ
أمّا صاحِبُ النَّفْسِ الْكبيرَةِ، فلا يَرْضَى مِنَ الغنيمَةِ بِالْإيابِ، أو مِنَ الْجَمَلِ بِأُذُنِهِ، ولا يَقِفُ عِنْدَ إنْجازٍ بَسيطٍ واحِدٍ، لا يُكْسِبُهُ رَفاهَ العيشِ .
وَنَحْنُ نَتَوَجَّهُ إلى طُلّابِنا في الدِّراسات العليا أنْ لا يكتفوا باللَّقَبَيْنِ الأوَّلِ والثّاني إذا كانت عِندَهُم نفوسٌ كبيرَة؛ لِأنَّ هدفَ التربيَةِ اليومَ أنْ يَسْتَغِلَّ الإنسانُ أقصَى طاقاتِهِ العقليَّةِ والْجسديَّةِ في سَبِيلِ سعادَتِهِ وسعادَةِ مُجتمَعِهِ، فإذا سَعِدَ الأفرادُ سَعِدَ المُجْتَمَعُ كُلُّهُ.
أذْكُرُ في السنواتِ الأُولَى من دراستي الجامعيَّة، كانَ الأقارِبُ والأصْحابُ يسألونَني: متى تنهي دراسَتَكَ الْجامعِيَّةَ ليلتَئِمَ شَمْلُ الجماعةِ؟ فكانَ جوابي: لا أعْرِفُ متى! فيقولون: غريبٌ هذا الذي تقولُه، طالِبٌ جامعِيٌّ لا يعرِفُ متى يُنْهي؟ فأقولُ: إن كُنتُم تسألونَ عن اللَّقَبِ الأوَّلِ، فَإنَّ نهايتَهُ قَريبَةٌ لكنَّني مُسْتَمِرٌّ واللَّهُ أَعْلَمُ متى يَكُونُ الإنهاءُ.
لماذا اختارَ أبو الطَّيِّبِ حِكْمَتَهُ هذه مدْحًا لسيفِ الدَّولةِ؟ لِأنَّ الأَميرَ كانَ لا يَكِلُّ، ولا يَمَلُّ، ولا يَغْمُضُ له جَفْنٌ عن الدِّفاعِ عَنِ الثُّغورِ الشَّآمِيَّةِ الحبيبةِ، ضِدَّ أعدائِها القادِمينَ مِنَ الشّمالِ بَرًّا وَبَحْرًا، ولا يكتفي بِنَصْرٍ واحِدٍ أحْرَزَهُ هُنَا أو هُناكَ، بَلْ كُلُّ أيّامِهِ كانتِ انتصارات.
فالنَّفْسُ الكبيرَةُ تُنْجِزُ العظائَمَ، وَإِنْ تَعِبَ الْجَسَدُ، لِأنَّها لا تستكينُ إِلَّا بتحقيقِ المآرِبِ الْكبرى، فتبقى حَيَّةً بالذِّكْرِ الطَّيِّبِ وَإِنْ ماتَ صاحِبُها، كما قَالَ شاعرُنا العظيم: من البسيط
ذِكْرُ الفَتي عُمْرُهُ الثّاني وَحاجَتُهُ
ما قاتَهُ، وفضولُ الْعيشِ أشغالُ
لا يعرِفُ الذِّكْرَ إِلَّا أصحابُ النُّفوسِ الكبيرَةِ الذين يرونَ عظائمَ الأمورِ والأهدافِ صغائرَ يقتحمونَها وَإنْ تعبوا وكَدُّوا.
وصدَقَ شاعِرُ العُروبَةِ صاحِبُ النَّفْسِ الأبيَّةِ العظمَى حين علَّمَنا قائِلًا: من الطويل
وَتَعْظُمُ في عَيْنِ الصَّغيرِ صِغارُها
وَتَصْغُرُ في عَيْنِ الْعَظيمِ العظائِمُ
فيا أصحابَ النُّفوسُ الكبيرَةِ أنتم أمَلُ الأُمَّةِ الذينَ تنتظرُهم، لِلنُّهوضِ بِهَا، والأخذِ بيدِها إلى أعْلَى القِمَم.
تعليقات
إرسال تعليق