بقلم...أ.د. لطفي منصور خاطِرَةٌ:
بقلم...أ.د. لطفي منصور
خاطِرَةٌ:
.............
رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ فَوَقَفَ عِنْدَ حَدِّهِ. وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قِيمَةَ الْآخَرَ كَإنْسانٍ فَقَدَّرَها واحْتَرَمَها، لِقِيمَةِ إنْسانِيَّتِها.
مَهْما كانَ هذا الإنْسانُ.
أَحْيانًا يَصْطَدِمُ النّاسُ مَعَ مَنْ لا يُقَدِّرُ هّذِهِ الْقِيَمَ، لثَخانَةِ جِلْدِهِ، وَسُوءِ تَرْبٍيَتِهِ، فَهُوَ لا يُعَدُّ مِنَ الْبَشَرُ بَلْ مِنْ أَجْلافِهِمْ.
دَخَلْتُ صَباحَ هذا الْيَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُبارَكَةِ أَحَدَ الْمَقاهي في بَلَدِي عادَةً أَرْتادُهُ، وَاتَّخَذْتُ مَكاني، ثُمَّ جاءَنِي النّادِلُ، وَهُوَ شابٌّ مُؤَدَبٌ، مُرَتَّبُ الْهِنْدامِ، لَطِيفُ اللِّسانِ ، مِنْ خارِجِ الْبَلَدِ جاءَ يَسْعَى لِطَلَبِ رِزْقِه، وَسَأَلَنِي ما ذا أَرْغَبُ لِيَخْدِمَنُي بِهِ. نَظَرْتُ إلى الشّابِ فَرَأَيْتُهُ يَكادُ يَتمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، يَكْتُمُ أَنْفاسَهُ واحْتارَ الدَّمْعُ في عَيْنَيْهِ. قُلْتُ
- لِماذا قُلْتَ لِتَخْدِمَنِي وَلَمْ تَقُلْ لِأُعِدَّ لَكَ، أوْ لِأُحْضِرَ لَكَ؟
- نَحْنُ نَعْمَلُ عِنْدَكُمْ كَالْخَدَمِ، هَكَذا تَنْظُرونَ إلَيْنا.
- لِماذا هذا التَّعْمِيمُ الْمُثِيرُ؟ أَنْتُمْ أَهْلُنا وَشَعْبُنا. قُلْ: ما الَّذي جَرَى ؟ وَلِماذا أَنْتَ بِهَذِهِ الْحالِ؟
- أَرْجُو أَنْ تُعْفِيَنِي يا أُسْتاذُ، فَنَحْنُ نُواجِهُ مِنَ الْإهاناتِ ما لا نَسْتَطيعُ تَحَمُّلَها. وَخَيْرٌ لَنا أنْ نَبْقَى في قُرانا مُحافِظِينَ عَلَى كَرامَتِنا، حَتَّى لَوْ مُتْنا جُوعًا.
كَلامٌ أَثارَ فُضُولي أَكْثَرَ.
- بِاللَّهِ عَلَيْكَ عَمِّي إلّا ما أَخْبَرْتَني ما سَبَبُ
غَضَبِكَ الشَّديدِ، وَإنْ شاءَ اللَّهُ سَنُنْصِفُكَ.
- قَبْلَ حُضورِكَ بِساعَةٍ كُنْتُ أَعْمَلُ في تَنْظِيفِ الْمَقْهَى، وَكانَ فُلانٌ جالِسًا هُوَ وَزائِرانِ في الزّاوِيَةِ، وَعَمَلي لا يُضايِقُ أَحَدًا، وَإذا بِهِ يَقِفُ صائِحًا: اِبْتَعِدْ إلَى جَهَنَّمَ أَيُّها الْكَنّاسُ، سَتَبْقَى كَنّاسًا خادِمًا.
- بِماذا أَجَبْتَهُ؟
- لَمْ أَلْفُظْ كَلِمَةً. لَكِنِّي شَعَرْتِ بِالْإهانَةِ، وَسَأَعُودُ إلَى قَرْيَتي بَعْدَ دَفْعِ حَقِّي.
- لا أَيُّها الشّابُّ الظَرِيفُ. اِعْمَلْ بالْمَثَلِ الَّذِي يَقُولُ: لَيْسَ الْمُهِمُّ ما قِيلَ، الْمُهِمُّ مَنْ هُوَ الْقائِلُ . إنَّكَ لَوْ وُزِنْتَ بِعَشْرّةٍ مِنْ مِثْلِهِ لَرَجَحْتَ. هُوَ لا يَتَعَدَّى أنْ يَكُونَ فَلّاحًا جِلْفًا لا أَثَرَ لِلثَّقافَةِ فِيهِ. وَأَنْتَ تَعْمَلُ بِشَرَفِكَ وَعَرَقِ جَبِينِكَ، وَالْكُلُّ يُقَدِّرُكَ وَيَحْتَرِمُكَ.
لَقَدْ هَزَّنِي هذا الْحَدَثُ مِنَ الُأَعْماقِ، وَاقْتَنَعْتُ أَنْهُ لا يَزالُ في مُجْتَمَعِنا مَنْ يَشْعُرُ بِالْكِبْرِ وَالتَّعالي عَلَى الْآخَرِينَ، وَهُمْ في حَضيضٍ فِكْرِيٍّ وَأَدَبِيٍّ وَتَرْبَوِيٍّ.
وَلَوْ كُنْتُ بَدَلَ هذا النّادِلِ الشَّرِيفِ لَأَجَبْتُهُ بِقَوْلِي: نَعَمْ أنا أَكْنُسُ الْمَقْهَى لِلنَّظافَةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْإيمانِ ، واعْلَمْ أَنْ بِهاتَيْنِ الْيَدَيْنِ الْمُمْسِكَتَيْنِ بِالْمِكْنَسَةِ أُعِدُّ لَكَ قَهْوَتَكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَمَرّاتٍ، فَلِماذا تَشْرَبُها؟
رُوِيَ أَنَّ أَحَدَ الْأَعْرابِ الْوافِدينَ عَلَى النَّبِيِّ عَلّيْهِ السَّلامُ لِيُسْلِمَ، فَلَمّا بايَعَهً وَصافَحَهُ شَعَرَ النَّبِيُّ بِخُشونَةِ يَدِهِ فَسَأَلَهُ: ما هذا؟ أجابَ الْأَعْرابِيُّ: أَعْمَلُ لِعِيالي، فَقَبَّلَها رَسولُ اللَّهِ.
اليابانٍيُّونَ لَيْسَ لَهُمْ كِتابٌ سَماوِيٌّ يُؤمِنُونَ بِهُ، لَكِنَّهُمْ يُؤْمِنونَ بِالْإنْسانِ . وَأكْبَرُ تِمْثالِ في طوكيو يُجُلِّونَهُ هُوَ تِمْثالُ رَجُلِ النَّظافَةِ.
وَفي الْحَدِيثِ الشَّريفِ: “لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ ذَرَّةٌ مِنْ كِبْرٍ”.
وَاعْلَمُوا أَيُّها الْإخْوَةُ أنَّ مِنْ أَسْبابِ تَخَلَُفِنا عَنِ الشُّعُوبِ وَتَمَزُّقِنا هِيَّ النَّعْرَةُ الْعَصَبِيَّةُ، وَشُعُورُ التَّعازي عَلَى الْآخَرِينَ، فَأَصْبَحْنا دُونَهَمْ فِكْرًا وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَثَقافَةً.
تعليقات
إرسال تعليق