بقلم... أ. د لطفي منصور خاطٍرة: (الموتُ والْحياةُ)

بقلم... أ. د لطفي منصور

خاطٍرة:
(الموتُ والْحياةُ)
.......................
عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ
كَمْ مِنْ أخٍ ليَ صالِحٍ
بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَ لَحْدا
ما إنْ جَزِعْتُ وَلا هَلِعْ
تُ وَلا يَرُدُّ بُكايَ زَنْدا
وَخُلِقْتُ يَوْمَ خُلِقْتُ جَلْدا
(الْهَلَعُ: الرُّعْبُ والْخَوْفُ الشَّديد؛ الْجَلَدُ: الصَّبْرُ والْقُوَّةُ عِنْدَ المصائِبِ)
ما أَصْدَقَ هَذِهِ الكَلِماتِ، وما أَصَحَّ انْطِباقَها عَلَى أَيّامِنا هَذِهِ!!
لَقَدْ كَثُرَ سُقوطُ الأحِبَّةِ والأصدِقاءِ والْمَعارِفِ مِنْ حَوْلِنا، مَنْهُمْ أَتْرابُنا، وَمِنْهُمْ أَصْغَرُ، وَمِنْهُمْ أَكْبَرُ. أَتَذَكَّرُ قَوْلًا قالَهُ لَنا بروفيسور هالْكين في أَحَدِ دُروسِ الفلسفَةِ في جامِعَةِ بار إيلان - وكُنّا آنَذاكَ في شَرْخِ الشَّبابِ، نَرْفُلُ في ثِيابِ الوَسامَةِ وَالنَّضارَةِ، وَنَنْظُرُ بِعَجِبٍ إلَى الطَّيّاتِ في وَجْهِ أسْتاذِنا، غَيْرَ مُصَدِّقينَ بِأنَّنا سَنَكونُ مِثْلَهُ، إذا ما امْتَدَّ بِنا الْعُمْرُ - قالَ لَنا: أحْيانًا أزورُ الطَّبيبَ لِفَحْصٍ طِبٍّيٍّ اعتِيادِيٍّ، فَأقولُ لَهُ: إنِّي أَعْجَبُ أَيُّها الطَّبيبُ مِنْ نَفْسِي، فَها أَنا عَلَى أبْوابِ الثَّمانينَ، وَأنا بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ لا أَشْعُرُ بِأيِّ مَرَضٍ، وَذاكِرَتِي كَالْحَديدِ قُوَّةً، وَأقْرَأُ وَأَكْتُبُ وَأَعْمَلُ، وقد ماتَ أبي في أوائِلِ السَّبعينِيّاتِ، وكذلِكَ جَدِّي، فما رَأْيُكَ أيُّها الطَّبيبُ الْمُحْتَرَمُ؟
فكانَ يُجيبُني ويَقولُ: لا تَقْلَقْ يا صَديقي، فَأَنْتَ أَيْضًا سَتَموتُ.
وَقَبْلَ عِدَّةِ سَنَواتٍ اتَّصَلَتْ بي سِكْرِتارِيَّةِ قِسْمِ اللُّغَةِ العرَبِيَّةِ في الجامِعَةِ نَفْسِها لِتُخْبِرَنِي أنَّ أُستاذَكَ بروفيسور غولدفلد، الذي أشْرَفَ عَلَى دِراسَتي وَأَبحاثي، مِنْ وَقْتِ أنْ وَطِئَتْ قَدَمايَ الجامِعَةَ حَتَّى إنْهائي مَرْحَلَةَ الدُّكْتوراة، قَدْ تُوُفِّيَ، وستُقامُ جِنازَتُهُ في يَوْمِ كَذا وَكَذا.
وكان عَلَيَّ أنْ أقومَ بالواجبِ باشتراكي في تَشُييعِ الجِنازَةِ، وأنْ أرْثِيَهُ بِكَلِماتٍ تَليقُ بِمقامِهِ. وهذا ما تَمّ لي، وبعدَأنْ وُورِيَ جُثْمانُهُ الثَّرى، قامَتْ عائِلَتُهُ بِتَوْزيعِ كُرّاسٍ كَتَبَهُ بِخَطِّه، وَصِيَّةً تُوَزَّعُ بَعْدَ دَفْنِهِ، وَمِمّا جاءَ فيها:
“أيُّها الأَصْدِقاءُ الْمُشَيِّعونَ، لا تَخافُوا مِنَ الْمَوْتِ،
حَتَّى الشُّموسُ تموتُ، والْمَجَرّاتُِ تموتُ، فَأَنا جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ الطَّبيعَةِ، كَشَجَرَةٍ تَكونُ بَذْرَةً، تَنْبُتُ وَتَنْمُو وَتَعْلو وَتَكْتَسي بالأَوْراقِ والأزْهار، ثُمَّ تُثمِرُ، وتَدورُ دَوْرَتَها كُلَّ سَنَةٍ، وتَعيشُ الأيّامَ والسِّنينَ الْمُقَدَّرَةَ لَها، ثُمَّ تَضْعُفُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَتَيْبَسُ وَتَموتُ.
لَمْ أجِئْ إلَى هَذِهِ الدُّنْيا بِإرادَتي، وَلَمْ أُفارِقْها بِإرادَتي. وَاعلَمُوا أَنْ لا شّيْءَ بَعْدَ المَوْتِ”.
هَذِهِ الجمْلَةُ قدْ أفْزَعَتْ بَعْضَ الْمُشارِكينَ وخاصَّةً المتدَيِّنينَ منهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف