بقلم...أ.د. لطفي منصور الإنْسانُ يَخْلُدُ بِمَآثِرِهِ:

 بقلم...أ.د. لطفي منصور

الإنْسانُ يَخْلُدُ بِمَآثِرِهِ:
.........................
أَجْيالٌ تُولَدَ وَتَشِبُّ وتَشِيبُ وَتَهْرَمُ ثُمَّ تَموتُ وَتَفْنَى، وَلا تَتْرُكُ وَراءَها أَثَرًا، سِوَى أنَّها أكَلَتْ وَشَرِبَتْ. وَتَتْبَعُها أجْيالٌ وَأَجْبالُ لا تَتْرُكُ بَصَماتٍ لَها، لا عَلَى الكَاعَظِ، ولا عَلَى الصَّخْرِ ولا عَلَى الرَّمْل.
وَهُناكَ رِجالٌ وَنِساءٌ لمْ يَمْلِكُوا ما نَمْلِكُ اليَومَ، لَكِنَّهُم حَفروا أسْماءَهُمْ عَلَى الْحَجَرِ الصَّلْدِ، بِما أوْرَثوا مَن جاءُوا بَعْدَهُمْ قُرونًا عَديدَةً تُراثَهُمْ الْخالِدَ الذي لا يَعْمَلُ فيهِ الزَّمانُ، وَلا يُبْليهِ الدَّهْرُ، هؤلاءِ هُمُ الْعُلَماءُ والْكُتّابُ والشُّعَراءُ، وَأصْحابُِ الْفَنِّ، والْموجِدونَ ما يَنْفَعُ الْبَشَرِيَّةَ، والْمُخْتِرِعُونَ وَسائلَ تُسَهَِّلِ الْحياةَ عَلى هذا الكوكَبِ.
رُبَّ طَبيبٍ أوْ صَيْدَلِيٍّ يَكْتَشِفُ دواءً أوْ مَصْلًا يُنْقِذُ فيهِ ملايينَ الْبَشَر، هلْ مِثْلُ هذا يَفْنَى، وَإنْ واراهُ التُرابُ. وهذا ما حَصَلَ في الماضي، وَأخْمِدَت سَوْرَةُ الْجَوائِحِ والْأَوْبِئَةِ، التي فَتَكَتْ بِمَلايينِ الضَّحايا. قَرَأْنا عنِ الطّاعونِ أوِ الْوَبَإِ الأسْوَدِ، فَلَمّا اكْتَشَفَ الإنسانُ اللُّقاحَ والعِلاجَ اهذهِ الأمْراضِ الْمُعْدِيَةِ سَعِدَتِ الْبَشَرِيَّةُ، وَتَنَعَّمَتْ في حياتِها.
لا يُخْلَقُ جَمِيعُ النّاسِ عُلَماءَ وَشُعَراء وأُدَباءَ مُبْدِعِيَنَ. إنَّ سَبْعينَ بِالْمِائَةِ منَ الْبَشَرِ عادِيُّون أيْ لهم ذَكاءٌ طَبيعِيٌّ. والباقُونَ مُوَزَّعونَ بين العباقِرَةِ والأذْكِياءِ جِدًّا وبَيْنَ المُتَخَلِّفينَ. هذا ما يُصَوِّرُهُ الْمُنْحَنَى الاِعْتِدالي.
لَيْسَتْ وظِيفَةُ الإنسانِ اليَوْمَ أنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ وَيَنْكِحَ وَيُنْجِبَ فَحَسْبُ، لِأنَّ الْحَيَوانَ مَهْما صَغُرَ أوْ كَبُرَ يُشارِكُهُ في هذَا السُّلوكِ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ تَمامًا، الْفارِقُ في الْمَدَنِيَّةِ فَقَطْ.
لَمْ يَهَبْنا اللَّهُ العَقْلَ لِيَبْقَى خامِلًا، وَإنَّما لِنُشْغِلَهُ بِالْعِلْمِ وَالْفِكْرِ والأدَبِ وباقي الفنونِ. تَمامًا كما لَمْ يَهَبِ الحَمامَةَ جناحَيْنِ لِتَبْقَى عَلَى الأرْضِ، وَإنَّما لِتُحَلِّقَ في السَّماء.
وَلَمْ يَهَبْنا ذاكِرَةً لِتَبْقَى مُغْلَقةً، بلْ لِتَسْتَوْدِعَ في خلاياها ما تَعَلْمْناهُ وشاهدناهُ وقَرَأناه، وما نَتَجَ مِنْ تجارِبِنا، فَتَفيضَ علينا مِنْ مَسْتَوْدَعاتِها وَقْتَ الْحاجَةِ.
وَكَما أصْبَحَ غَزْوُ الْفَضاءِ حاجَةً ضَرورِيَّةً لِتَطْويرِ حَياةِ الإنسانِ بِمَعْرِفَةِ الْمَجْهولِ، وهوَ أَقْصَى ما يَنْتَظِرُهُ الأنْسانُ، كذلكَ أصْبَحَ غَزْوُ داخِلِنا حاجَةً أكْثَرَ ضَرورَةً. لأنَّ بِداخِلِنا النَّفْسِي والْجَسَدي غَوامِضَ لا تَقِلُّ عن غَوامِضَ الْكَوْنِ، وقدْ أشارَ القرْآنُ إلى هذا فقالَ تعالَى: "ثُمَّ انْظُروا في أنْفُسِكُم.."
لا شَكَّ أنَّ أميرِكا سبَقَتِ العالَمَ في الألكترونكا، وغَزْوِ الفضاء، بالهبوط على القَمَرِ، والكواكبِ السَّيّارَةِ بسفنِها الفضائِيَّةِ. وَسَبَقَتْ بِالْمَعَدّاتِ الطِّبِّيَّةِ وأنواعِ العلاجِ. ذلكَ أعطَى رَئِيسَها ترامب نَزْعَةَ التَّكَبُّرَ عَلى كثيرٍ منَ الدُّوَلِ واحتقارِها، مُتَّهِمًا إيّاها بالتَّخَلُّفِ والغباءِ، وخاصَّةً دُوَلَنا العرَبِيَّةِ المُسْتَهْلَكَةَ وغَيْرَ المُنْتِجَةِ.
وقدْ فَطِنَ أبو الطَّيِّبِ لِقيمَةِ الإنسانِ بعدَ مَوْتِهِ، وَرَكَّزَ عَلَى ذِكْرِ الإنسانِ، وأَسماهُ الْعُمْرَ الثّاني فقالَ: من البسيط
ذِكْرُ الْفَتَى عُمْرُهُ الثَّانِي وَحَاجَتُهُ
ما قاتَهُ وَفُضُولُ الْعَيْشِ أشْغالُ
————-
كان الدّافِعُ لكتابَةِ هذهِ الكَلِمَةِ ذِكْرَ خُلودِ أخي وصديقي الْحَبيبِ البروفسور والأُسْتاذْ الشّاعرِ الكاتِبِ المُؤَلِّفِ المرحوم فاروق مواسي أبي السيِّدِ الذي سيبقى خالِدًا مُخَلَّدًا بِتُراثِهِ، في الشِّعْرِ واللُّغَةِ بِكُلِّ عُلومِها، فقد ضَرَبَ بِأسْهُمٍ في جميعِ الفُنونِ الأدَبِ العربيِّ فيما يزيدُ عنْ سبعينَ كتابًا. هذا عدا المِجَلّاتِ الأدبيَّةِ التي عَمَّتِ الداخِلَ والعالَمَ العَرَبِيَّ.
وِإنِّي لَأَتَقَدَمُ منْ روحِهِ الطاهِرَةِ مُهْدِيًا لها ما كتبتُ هنا مُعتَذِرًا عنْ تواضعِهِ. لكنِّي متأَكِّدٌ أنَّ روحَ المرحومِ التي غَذَّتها كِتاباتُهُ الْجُلَّى سَتُسَرُّ بِكَلِمَةٍ من أخٍ صديق.
تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَحنانِهِ في الفِرْدَوْسِ الأعلَى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف