بقلم...أ.د. لطفي منصور الْمُبَرِّدُ والْقِبَعْضُ: (طُرْفَةٌ لُغَوِيَّةٌ)
بقلم...أ.د. لطفي منصور
الْمُبَرِّدُ والْقِبَعْضُ: (طُرْفَةٌ لُغَوِيَّةٌ)
....................
أبو الْعَبّاسِ محمَّدُ بنُ يَزيدَ البَصْرِيُّ الأزْدِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ الأديبُ المعروفُ بِالْمُبَرِّدًِ(ت ٢٨٦هج) من كبارِ عُلَماءِ القَرْنِ الثّالِثِ الهِجْرِيِّ، أَخَذَ عَنْ كبارِ العلماءِ كَأبي عُثمانَ المازِنِيِّ والجَرْمِيِّ وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانِيِّ وعَشَراتٍ غَيْرِهم، قرَأَ كتابَ سيبويْهِ على المازنِيِّ، وله عليْهِ مُلاحظاتٌ هامَّةٌ، وهو بَصْرِيٌّ مِثْلُهُ.
كانَ المُبَرِّدُ إِمامَ العرَبِيّّةِ في بَغْدادَ. وكانَ مُعاصِرًا لِزَعيمِ مدرسةِ الكوفَةِ - بعدَ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ - الإمامِ أحْمَدَ بنِ يحيى المعروف بِثَعْلَبًٍ( ت٢٩١هج)، وكانَتْ بينَهُما مُناظَراتٌ وخلافاتٌ لُغَوِيَّةٌ، كما كانَ بينَ سيبَوَيْهِ والكِسائِيِّ،
كَمَا حَصَلَ في الْمسأَلَةِ الزُّنْبورِيَّةِ المعروفَةِ.
تَرَكَ لنا الْمُبَرِّدُ آثارًا عظيمَةً مِنَ المؤلَّفاتِ المفيدَةِ. أهَمُّها اثْنانِ:
- كتابُ "الكامِلُ في الأَدَبِ"، لَهُ عِدَّةُ طَبَعات أشْهَرُها طبعةُ مؤسَّسَةِ الرِّسالَةِ (١٩٩٣م). وهو أحَدُ كُتُبِ الأَدَبِ الأربَعةِ التي عَدَّها ابْنُ خَلدون زُبْدَةَ الأدَبِ العربيِّ وأوصى بقراءَتِها والاطِّلاعِ عليها. وَقَالَ: مَنْ لا يَعْرِفُها خَسِرَ العربيَّةَ. والكتُبُ الثلاثَةُ الأخرى هي: كتابُ الأمالي لأبي عَلِيًّ القالي (ت٣٥٦هج)، كتاب البيان والتَّبْيّين لعمرو ابن بحر الجاحظ (٢٥٥هج) وكتاب "أدَبُ الكاتِب" لابْنَ قُتَيْبَةَ الدينَوَرِيِّ (ت ٢٧٦هج). وَقَالَ ابنُ خَلدون: والباقي عالَةٌ عليها. ( مقدِّمةِ ابنِ خَلدون، القسمُ الأدَبيُّ في آخر المقدِّمة)
والكتابُ الثاني هو "الْمُقْتَضَبُ في النَّحْوِ" تَعَصَّبَ فيه للبصريِّينَ، وأدخلَ فِيهِ أيضًا ما رآهُ مناسِبًا مِنْ آراءِ المدرَسَةِ البغدادِيَّةِ التي توسطت على يد أبي عمر صالح الْجَرْمي (ت٢٢٥هج).
طُبِعَ المقتضَبُ في بيروتَ، بِأربَعَةِ مجلّداتٍ ضخمةٍ، وصدر عن عالم الكتب سنةَ ١٩٦٣م.
أمَّا سَبَبُ تلقيبِهِ "المُبَرِّد" يعودُ إلى شَيْخِهِ أبي عُثْمانَ المازِنِيِّ. الذي ألَّفَ كتابَ "الألف واللّام" ، فَأرادَ الشيْخُ أنْ يَخْتَبِرَ تلميذَهُ، فَسَألَهُ عَنْ دقيقِهِ وعَويصِهِ، فَأجابَهَ أحْسَنَ جَوَاب، فقالَ لَهُ المازِنِيُّ: "قُمْ فَأنْتَ الْمُبَرِّدُ"، بِكَسْرِ الرّاءِ أَيْ الْمُثْبِتْ لِلًْحَقّّ، لم يَرُقْ لِلْكوفِيِّينَ هذا فَفَتَحوا الرّاءَ فَصارَ المُبَرَّدَ، وزعموا أنَّهُم بَرّدوهُ وَغَلَبوهُ، بسبَبِ الخصومةـ مع البصرِيِّينَ. فقالَ أحَدُ الشُّعَراء: من الكامل
وَالْكَسْرُ في راءِ الْمُبَرِّدِ واجِبٌ
وَبِغَيْرِ ذَلِكَ تَنْطِقُ السُّفَهاءُ
كانَ المُبَرِّدُ مِنْ أكْثَرِ النَّاسِ حِفْظًا لِلُّغَةِ. وكثيرًا ما كانَ لا يذكُرُ أسانيدَهُ، وكانَ يظهَرُ على المحتجِّينَ فيغلبُهُمْ. فَتَعَجَّبَ القَوْمُ من قُوَّةِ ذاكِرَتِه، وحفْظِهِ الدَّقيقِ لِلْغَريبِ، فتواضَعَ بَعْضُ خُصومِهِ عليْهِ وأخذوا يَتَّهِمونَهُ بِالوضْعِ وَاختِلاقِ الألفاظِ والمعاني، فاتَّفَقوا أنْ يوقِّعوهُ في هاوِيَةٍ لُغَوِيَّةٍ لا تقومُ لَهُ قائِمَةٌ بعدَها.
اِخْتارَ الخُصومُ، ومنهم الْمُفَجَّعُ البصريُّ، بيتًا لطَرَفَةَ بنِ العبدِ الشّاعِرِ الجاهليِّ، اختلفوا في عَروضِهِ: مِنَ الطَّويل
أبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنا
حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضَ
أخذوا حَرْفَ القافِ من كلمَةِ فَاسْتَبْقِ، وَالأحْرُفَ الثَّلاثَةَ الأولى من كلمَةِ بَعْضَنا في الشطْرِ الثاني، فَشَكّلَتِ الأحْرُفُ الأربَعةُ كلمةَ "قِبَعْضُ". ثُمَّ جاءوا إلى المُبَرِّدِ وقالوا لَهُ:
أيَّدَكَ اللّهُ يا أبا العبّاس، ما هُوَ الْقِبَعْضُ؟
قالَ: القِبَعْضُ عِنْدَ العَرَبِ الْقُطْنُ. ألا تعرفونَ قَوْلَ الشّاعِر: مِنَ الوافر
كَأَنَّ سَنامَها حُشِيَ الْقِبَعْضا
قَالَ المفجّعُ:
فقلْتُ لِأصْحابي: "تَرَوْنَ الْجَوابَ والشَّاهِدَ؛ فَإِنْ كانَ صحيحًا فهوَ عَجبٌ، وَإِنْ كانَ مُخْتَلَقًا على البديهَةَ فهوَ أعْجَبُ".
————
أُولَئِك آبائِي فَجِئْني بِمِثْلِهِمْ
إذا جمعَتْنا ياداًودُ) المجامِعُ
تعليقات
إرسال تعليق