بقلم...أ. د. لطفي منصور مِنْ أَيَّامِ الْعَرَب: (حُروبُهُمْ التي كانَتْ تَحْدُثُ في النَّهارِ، فَسُمِّيَتْ بِالْأَيّام)

بقلم...أ. د. لطفي منصور

مِنْ أَيَّامِ الْعَرَب:
(حُروبُهُمْ التي كانَتْ تَحْدُثُ في النَّهارِ، فَسُمِّيَتْ بِالْأَيّام)
.......................
وَأَلْقَتْ عَصاها وَاسْتَقَرَّتْ بِها النَّوَى
كَما قَرَّ عَيْنًا بِالْإيابِ الْمُسافِرِ
هَذا الْبَيْتُ اتَّخَذْتُهُ قِصَّتي، لَكِنْ وَبِناءً عَلَى طَلَبِ أَحَدِ الْأُدَباءِ الأَجِلّاءِ أَنْ أَذْكُرَ مُناسَبَتَهُ مَعَ شَرْحِهِ أَقُولُ:
الْبَيْتُ أَحَدُ أَبْياتِ قَصيدَةٍ لِشاعِرٍ جاهِلِيٍّ يُدْعَى مُعَقِّرَ بْنَ أَوْسٍ الْبارِقيَّ، وَبارِقٌ اسْمُ مَكانٍ في جَزيرَةِ الْعَرَبِ وُلِدَ الشَّاعِرُ بِهِ. كانَ مُعَقِّرٌ مِن فُرْسانِ قَوْمِهِ الشُّجْعانِ والْكُرَماءِ، وَمِنْ هُنا جاءَ اسْمُهُ مِنْ عَقَرَ النّاقَةَ إذا ضَرَبَ قَوائِمَها بالسَّيْفِ لِتُنْحَرَ.
اشْتَرَكَ مَعَ قَوْمِهِ في مَعْرَكَةِ شِعْبِ جَبَلَةَ، الَّتِي حَدَثَتْ عامَ الْفيلِ، مَوْلِدِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقالَ قَصٍيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ يَمْدَحُ قَوْمَهُ. ماتَ مْعَقِّرٌ سَنَةَ ٥٨٠ م.
قَصَيدَةُ مُعَقِّرٍ مِنَ الطِّوالِ، قالَها في أمْجادِ قَوْمِهِ، في يَوْمِ شِعْبِ جَبَلَةَ، والشِّعْبُ الوادي الْمُنْبَسٍطْ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. إلَيْكُمْ بَعْضًا مِنْ أَبياتِ الْقَصِيدَةِ: مِنْ بَحْرِ الطَّويل
أَمِنْ آلِ شَعْثَةَ الْحَمُولُ الْبَواكِرُ
مَعَ اللَّيْلِ أمُّ زالَتْ قُبَيْلُ الْأَباعِرُ
(يُخاطِبُ الشّاعِرُ نَفْسَهُ مُسْتَفْهِمًا، وَشَعْثَةُ صاحِبَتُهُ، والشَّعَثُ إهْمالُ تَمْشيطِ الشَّعْرِ. وهذه عادَةُ الْعَرَبِ في التَّسْمِيَّةِ، فَقَدْ سَمَّوْا أبْناءَها لِأَعْدائِها وَعَبيدَها لَها. الْحُمُولُ: الْهَوادِجُ وَهٍيَ مَراكِبُ النِّساءِ عَلَى الْجِمال.
يَسْأَلُ الشّاعِرُ: هَلْ هَذِهِ الْهَوادِجُ مِنْ قَبيلَةِ شَعْثَةَ تسيرُ مُبَكِّرَةً في هذا اللَّيْلِ أمْ أَنَّ جِمالَهُم قَدْ سَبَقَتْ ذَلِكَ؟ كَأَنَّهُ تَوَهَّمَ لِبُعْدِها أَنَّها ليستْ جِمالًا بَلْ أَشْكالٌ أُخْرَى تُشْبِهُها، قُبَيْلُ تَصْغيرُ قَبْلُ ظَرْفُ زَمانٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، لٍأَنَّهُ مَقْطُوعٌ عَنِ الْإضافَةِ)
وَحَلَّتْ سُلَيْمَى في هٍضابٍ وَأَيْكَةٍ
فَلَيْسَ عَلَيْها يَوْمَ ذَلِكَ قادِرُ
(سُلَيْمَى هيَ شَعْثاءُ صاحِبَةُ الشَّاعِرِ، وَهِيَ في حِصْنٍ حَصينٍ فيه هِضابٌ وَأشْجارٌ، ولا يَقْدِرِ أَحَدٌ عَلَى أنْ يَنالَها)
وَأَلْقَتْ عَصاها وَاسْتَقَرَّتْ بِها النَّوَى
كَما قَرَّ عَيْنًا بِالْإيابِ المُسافِرُ
(هَذا الْبَيْتُ مِنَ الشَّواهِدِ اللُّغَوِيَّةِ، وَمِنْ جَميلِ الشِّعْرِ. قالوا أوَّلُ لَحْنٍ عِنْدَ الْعَرَبِ كانَ في الْعِراقِ، فَقَدْ سَمِعُوا شَخْصًا يَقولُ: هَذِهِ عَصاتِي، فيا وَيْلَهُ فَقَدْ لَحَّنُوهُ، وَكادُوا يَكْوًُونَ لِسانَهُ بِالْحَدَيدِ الْمُحَمَّى بِالنَّار، وكانَ عَليْهِ أنْ يَقولَ: هَذِهِ عَصايَ وَلَيْسَ عَصاتِي، وَعصاها كَما في الْبَيْتِ ولَيْسَ عَصاتَها. وفي الْقُرْآنِ: “هِيَ عَصاي”.
رَوُعَةُ التَّشْبيهِ في هذا الْبَيْتِ فائِقَةٌ جِدًّا. شَبَّهَ الشّاعِرُ سَكينَةَ سُلَيْمَى وَأمْنَها بِسَكينَةِ مُسافِرِ غابَ طَويلًا وَرَأى ما رَأَى مِنَ الْأَخْوال، وَعادَ إلَى وَطَنِهِ قَريرَ الْعَيْنِ مُطْمَئِنًّا. هذا تَشْبيهُ التَّمْثيل.
نَقول: ألْقَى عَصا التَّرْحالِ، إذا عادَ إلَى وَطَنِهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا.
كَما نَقولُ في الْأَمْثالِ: اِنْشَقَّتْ بَيْنَهُمُ الْعَصا، أَيْ اِخْتَلَفُوا. وَعَيْنًا في جملةِ: قَرَّ عَيْنًا تَمْيِّيزُ نٍسْبَةٍ.
وَلِهذا البَيْتِ قِصَّةٌ طَرِيفَةٌ. فَقَدْ رُوِيَ أنَّ أبا عَبْدِ اللَّهِ السَّفاحِ عِنْدَما بُوعِيَ بِالْخِلافَةِ، كانَ عَلَيهِ أنْ يَظْهَرَ لِلنّاسِ وَيَخْطُبَ فِيهِمْ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَكانَ هذا الظُّهورُ وَذَلِكَ الْخِطابُ يُقْلِقانِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتادٍ عَلَيْهِما، لَكِنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذا.
فَلَمّا اعْتَلَى الْمِنْبَرَ داهَمَهُ الارْتِباكُ وَأُرْتِجَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أمْسَكَ بِعَصا الْخِطابَةِ، فَسَقَطَتْ مِنْ يَدِهِ فَجَلَسَ يَرْتَعِدُ، فَأَسْرَعَ أحَدُ أَتْباعِهِ وَتَناوَلَ الْعَصا وَقَبَّلَها، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ:
وَأَلْقَتْ عَصاها وَاسْتَقَرَّتْ بِها النَّوَى
كَما قَرَّ عَيْنًا بِالْإيابِ الْمُسافِرُ
النَّوَى: الفِراقُ والْبُعْدُ وَالشَّرُّ،
أكْتَفي بِهذهِ الْأَبْياتِ خَوْفَ الْإطالَةِ عَلَيْكُمْ، وَأُحِيلُكُمْ إلَى مَصْدَرِها:
نَقائِضُ جَرِيرٍ والْفَرَزْدَقِ، جَمَعَها أَبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى (ت 209 خج) طُبِعَ في ليدن في هولندا سنة 1907م، 2: 176.
إلَى هُنا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف