بقلم... أ.د.لطفي منصور خاطِرَةٌ:
بقلم... أ.د.لطفي منصور
خاطِرَةٌ:
...................
رَجَعْتُ بذاكِرَتي سَبْعَةَ عُقودٍ مِنَ الزَمانِ ، لِأَحْيا تِلْكَ اللَّحَظاتِ الرَّهيبَةَ التي مازالتْ تَخْطُرُ وتُجول في البالِ. مِنَ الصَّعْبِ عَلَى الأطْفالِ أنْ يَنْسَوْا مناظِرَ وَأحْداثا تَرَكَتْ أخاديدَ في أدْمِغَتِهِم، لأنَّها جَمَعَتِ الرُّعْبَ والرَّهبَة مَعًا، فَكَيْفَ تُنْسَى؟
كُنْتُ في التّاسِعَةِ مِنْ عُمْرِي، وَأنا أَكْبَرُ إخْوتِي، حينَما انْدَلَعَتِ الحَرْبُ بَيْنَ الْعَرَبِ والإسْرائيليِّينَ سَنَةَ ١٩٤٨م. كانَتِ الطيرَةُ قَرْيَتي تْشَكِّلُ رَأْسَ مُثَلَّثٍ مْتَساوي السّاقَيْنِ، تَمْتَدُّ قاعِدَتُه مَنْ مَدينَة أُمِّ الفَحْمِ شَمالًا، مرورًا بوادي عارةَ، وحتَّى مدينَةِ كفرِقاسمٍ جَنوبًا، بطولِ ثمانين كيلومِتْرًا.
وَنَظَرًا لمَوْقِعِها الاستراتيجي - ولمْ يَبْقَ بَيْنَها وبَيْنَ البحٍرِ أيُّ قَرْيَةٍ عَرَبِيَّةٍ، بَعْدَ تَشريدِ أهْلِها، وسُقوطِ يافا - تَعَرَّضَتْ الطيرَةُ لِعِدَّةِ هُجوماتٍ مِنْ قِبَلِ القُوّاتِ الإسْرائيليَّةِ، لِغَرَضِ احْتِلالِها، وَطَرْدِ جَميعِ أَهْلِها لِيَنْضَمُّوا إلَى قَوافِلِ اللّاجِئِينَ الّذينَ شُرِّدُوا مِنْ دِيارِهم، وذلكَ قَبْلَ دُخُولِ أَفْواجِ الجيشِ العراقي فِلَسْطينَ وَعَسْكَرُوا في لِواءِ نابلسَ، ثُمَّ وُصولُ عَناصِرَ مِنْهُ إلَى الطِّيرَةِ لِمُساعَدَةِ أهْلِها عَلَى الصُّمودِ في وَجْهِ القُوّاتِ الْمُهاجِمَةِ.
كانَ والدي رَحِمَهُ اللهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ شابًّا يُشارِكُ في حِراسَةِ الْبَلَدِ. وَقَدِ اتَّفقَ معَ عَمٍّ لي عَلَى المناوبَةِ، وكانا يمتلِكانِ بُنْدُقِيَّةً مِنْ مُخَلَّفاتِ الجيشِ الألمانيِّ، جُلِبَتْ لَهُما مَنْ سوريّةَ بِثَمَنٍ قَدْرُهُ خَمسونَ جُنَيْهًا فِلِسْطينِيٍّا، تَغَلَّبَ على دَفْعِهِ مَنْ “صِيغَةِ” أُمِّي.
في ضُحَى أحَدِ الأَيّام،التي يَسْتَرِيحُ فيها أبي، تَوَجَّهَ إلَى ديوانِ العائلَةِ، وكانوا يَجْلِسونَ عَلَى صُفَّةٍ مكشوفَةٍ، وَصَحِبَني مَعَه، ويا لَيْتَهُ لَمْ يَصْحَبْني، ويا وَيْلِي مِنْ ذَلِكَ الحادِثِ الْمُفْزِعِ، أرْتَعِدُ كُلَّما ذَكَرْتُهُ.
كُنْتُ جالِسًا عَلَى يَمينِهِ ووجوهُنا مُتَوَجِّهَةٌ نَحْوَ الغَرْبِ، وكانَ أمامَنا يَجْلِسُ خالٌ لي قارِئٌ حَضَرَ من تَوِّهِ من مدينَةِ طولْكَرْم، وَقَدْ أحضَرَ مَعَهُ “جريدَةَ الدَّفاع” وأخَذَ يتصَفَّحُها وَيَقْرَأُ والحضورُ مُنْصِتونَ.
كُنْتُ أعْشَقُ الأخبارَ، وكُنْتُ أطْلُبُ مِنْ خالي أنْ يُعْطِيَني الجريدَةَ، ليوْمَيْنِ أوْ ثلاثَةٍ لِأَقْرَأ ما يَروقُ لي منها. وَكُنْتُ أجيدُ القراءَةَ، فَقَدْ أنْهَيْتُ الصَّفَّ الرّابِعَ في الابتدائِيَّةِ، عدا ما تَعَلَّمُتُهُ في الْكُتّابِ في العُطَلِ المدرسيَّةِ، فلم يَكُنْ لي عُطَلٌ لأرْتاحَ بها مِثْلَ أبْناءِ صَفِّي، طاعَةً لأمْرِ أبي وَرَغْبَتِهِ.
لَقَدْ حَدَثَ ما لَمْ نكنْ نتوقَّعُهُ. بَيْنَما نَحْنُ جالسونَ علَى الُحُصُرِ في القِسْمِ الْمَكْشوفِ مِنَ الدّيوانِ بَدَأَتِ الرَّشّاشاتِ الإسْرائِيلِيَّةُ مِنَ الْجَبْهَةِ الْجَنوبِيَّةِ تُمْطِرُ الطيرَةَ بِوابِلٍ مِنَ الرَّصاصِ كَوَجْبَةٍ صَباحِيَّةٍ، لِتَرْويعِ أهْلِها وَبَثِّ الفَزَعِ في قُلوبِ المُدافِعينَ، وَإذا بِرَصاصَةٍ طائِشَةٍ تَضْرِبُ عَضُدَ أبي الأيْسرِِ واسْتَقَرَّتْ فَوْقَ ثَدْيِهِ الأيُسَرِ، بَيْنَما كانَ يَلُفُّ سيجارَةَ تِبْغٍ ، صَرَخَ أبي مِنَ الألَمِ، وَإذا بِسائِلٍ أَحَمَرِ يَنْزِفُ مِنْ ذِراعِهِ، أصابَني الفزَعُ الشَّديدُ والذُّهولُ، فَأَخَذْتُ بالصِّياحِ: أبي، أبي. أسْرَعَ الحاضِرونَ بِإبْعادي عَنْ أبي، وسارعوا
بِنَقْلَ أبي إلَى “المَقَرِّ” وَهُوَ مَرْكَزُ الْحامِيَةِ العراقِيَّةِ، وكانَ قَريبًا، حَيْثُ الإسعافُ.
لَفُّوا ذِراعَ أبي، وتَقَرَّرَ تَحْويلُهُ بِسُرْعَةٍ إلَى المَشْفَى الميدانيِّ في مدينَةِ نابلِس لإجراءِ عَمَلِيَّةٍ لاستِئْصالِ الرَّصاصَةِ خَوْفًا عَلَى سلامَةِ القلْبِ.
مكَثَ أبي أُسْبوعًا في المَشْفى، وعادَ إلَيْنا سالِمًا.
كان لهذا الْحَدَثِ تَأثيرٌ نَفْسِيٌّ عَلَيَّ، امتدََ بِضْعَ سَنواتٍ، لكِّنَّهُ بَقِيَ عالِقًا في ذاكِرَتِي لَمْ يَمُحُهُ كَرُّ اللَّيالِي والأيّامِ.
تعليقات
إرسال تعليق