بقلم...أ. د. لطفي منصور تَحْتَ أَشْجارِ الزَّيْتُون (قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ)

 بقلم...أ. د. لطفي منصور

تَحْتَ أَشْجارِ الزَّيْتُون
(قِصَّةٌ قَصِيرَةٌ)
...................
هَجَمُوا هَجَمُوا:
كانَ أَحْمَدُ يَلْعَبُ ظُهْرًا مَعَ أَقْرانِهِ أَوْلادِ حارَتِهِ لُعْبَةَ "الْمَسْكَةِ"، فَجْأَةً سَمِعُوا انْفِجاراتٍ قَوٍيَّةً في الْقَرْيَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكََ إطْلاقُ نارٍ شَدِيدٍ مِنْ رَشّاشاتٍ قَوِيَّةٍ. وَسَمِعَ النّاسَ يَقُولُونَ: هَجَمُوا. فَرَّ الْأَوْلادُ، وَمِنْهُمْ أَحْمَد، هارِبينَ إلى بُيوتِهِمْ.
وَجَدَ أَحْمَدُ أَهْلَهُ وَجِيرانَهُ في صَخَبٍ شَدِيدٍ، أَخَذَ الْفَزَعُ مِنْهُمٍ كُلَّ مَأْخَذٍ، يَضْرِبُونَ كَفًّا بِكَفٍّ وَيَقُولُون: سَقَطَتِ الْقَرْيَةُ!
كانَتْ مُشْكِلَةُ الْأَهالِي كَيْفَ يُنْقِذُونَ الْأَوْلادَ والنِّساءَ. وَبَعْدَ بُرْهَةٍ مِنَ الزَّمَنِ الْمُخِيف تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِهَةَ الشَّرْقِيَّةَ مِنَ الْقَرْيَةِ مّفْتُوحَةٌ وَغَيْرُ مُطَوَّقَةٍ. فَتَقَرَّرَ أَنْ يَخْرُجُوا بِالْأَوْلادِ وَالنِّساءِ إلى الْمِنْطَقَةِ الْجَبَلِيَّةِ وَيُعَرِّشُوا تَحْتَ أَشْجَارِ الزَّيْتُونِ الْكَبِيرَةِ.
كانَ أَحْمَدُ صَبِيًّا لَمْ يُكْمِلِ الصَّفَّ الْخامِسَ، كانَ يَسْمَعُ بِاهْتِمامٍ لِما يَقُولُهُ الْكِبارُ، قَدْ بَدا الْخَوْفُ والْقَلَقُ عَلى وَجْهِهِ، يَنْظُرُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْأُخْرَى إلى الشّارِعِ الْعامِّ فَيَرى شَبابًا مُسَلَّحينَ يَعْدُونَ إلى الْجَبْهَةِ لِيُدافِعُوا عَنِ الْقَرْيَةِ، فَيَسْرِي في عُروقِهِ شُعُورٌ بِالْإيمانِ أَنْ الْقَرْيَةَ لَنْ تَسْقُطَ أَبَدًا.
كَانَ لِوالِدِ أَحْمَدَ عَرَبَةٌ كَبِيرَةٌ يَجُرُّها بَغْلانًِ ، وَكانَتْ أمُّ أَحْمَدْ مُنْهَمِكَةً بِمَلْءِ الْعَرَبَةِ بِالْفِراشِ
وَأَنْواعِ الطَّعام وَخاصَّةً الطَّحِينَ وَبِرْمِيلِ الْماءِ، وَجَرَّةِ الزَّيْتِ، وَمَرْتَبان زُجاجِيٌّ فيهِ السَّمْنُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الملابِسِ وَاللَّوازِمِ، وَكانَ الرَّصاصُ يَتَناثَرُ في كُلِّ مَكانِ ، وَأُصِيبَ بَعْضُ النّاسِ.
اسْتَقَلَّتْ عائِلَةُ أَحْمَدَ الْعَرَبَةَ، مُتَّكِلِينَ عَلى اللَّهِ، وَاتَّجَهُوا شَرقًا إلى الْمِنْطَقَةِ الْجَبَلِيَّةِ الّتي تَبْعُدُ عَنِ الْقَرْيَةِ عَشْرَةُ كيلومترات حَيْثُ أَشْجارُ الزَّيْتُونِ الْكَبِيرَةُ، وَقَبْلَ أْ نْ يُغادِرُوا الْقَرْيَةَ بِقَليل وإذا أُمُّ أَحْمَدَ تَصْرُخُ بِأَعْلى صَوْتِها، فَظَنَّ الرُّكّابُ أَنَّها أُصِيبَتْ بِعِيار نارِيٍّ، فانْتَفَضُوا جَميعًا بِهَلَعٍ شَديدٍ، ثُمَّ قالَتْ: أُخْتكُمْ في الْمَهْدِ. فقَفَزَ أحْمَدُ وَأُخْتُهُ الْكَبيرَةُ بِسُرْعَةٍ كَبيرَةٍ وَعادا إلى الْبَيْتِ وَفَتَحا الْبابَ وَتَناوَلا الرَّضيعَةَ أُخْتَهُما الَّتِي كانَتْ تَصْرُخُ صُراخًا شَديدًا مِنْ صَوْتِ الِانْفِجاراتِ، وَجِسْمُها يَنْضَحُ عّرَقًا وَعادا بِها إلى الْعَرَبَةِ سَالِمِينَ. وَاسْتَمَرَّتِ الْعَرَبَةُ بِالسَّيْرِ وَالْمَوْتُ صامِتٌ يَنْظُرُ، إلى أَنْ تَجاوَزَتِ الْخَطَرَ. قالَ أبو أَحْمَدْ: الْآنَ نَجَوْنا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ.
رَأى أَحْمَدُ في الطَّريقِ عِدَّةَ سَيّاراتٍ تُقِلُّ مُتَطَوِّعِينَ قادِمِينَ لِلدِّفاعِ عَنِ الْقَرْيَةِ يُنْشِدُونَ الْأَناشيدَ الْوَطَنِيَّةَ.
وَصَلَتِ الْعَرِبَةُ كُرُومَ الزَّيْتُونِ ، عائِلاتٌ كَثِيرَةٌ سَبَقَتْ وَاخْتارَتْ لَها أَشْجارًا لِتَجْلِسَ تَحْتَها بَعْدَ أَنْ تُحيطَها بِالْحُصُرِ، لِسَتْرِ مَنْ في داخِلِها، وَتَفْرُشُ أَرْضَها بِالْبُسُطِ والْفَرْشِ.
أصْبَحَتْ بَساتِينُ الزَّيْتُونِ قَرْيَةً صَغيرَةً. عِنْدَ كُلِّ شَجَرَةٍ تَرَى مَوْقِدًا وَنارًا وَدُخانًا لِلطَّهْيِ وَالْخَبْزِ عَلى الصّاجِ أَرْغِفَةً رَقيقَةً.
وَكانَ صَباحُ يَوْمٍ جَدِيد. وَصَلَتِ الْبَشائِرُ بِانْدِحارِ الْغُزاةِ. وَسَلِمَتِ الْقَرْيَةُ مِنَ الِاحْتِلالِ . فَقامَ أَبو أَحْمَدَ عَلى الْفَوْرِ وَأَخَذَ يُعِدُّ الْعَرَبَةَ لِلرُّجُوعِ إلى الْبَيْتِ، وَصَحِبَتْهُ ابْنَتُهُ الْكَبيرَةُ لِتُساعِدَهُ في أمُورِ الْبَيْتِ والدَّوابِّ وَالْفَلْحَةِ، بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ عَلى صِغارِهِ وَأُمِّهِمْ.
نَظَرَ أَحْمَدَ حَوْلَهُ فَإذا هُوَ في بِيئَةٍ جَبَلِيَّةٍ، أرْضُها مَفْروشَةٌ بِالْحِجارَةِ صَغِيرَةً وَكَبيرَةً، وَهُوَ الَّذِي عاشَ في سَهْلٍ وَرِمالٍ ، يَعْدُو ما يَشاءُ، وَيَلْعَبُ أَيْنَ شاءَ.
فَأَخَذَ يَضْغَطُ عَلى أَبيه أَنْ يَعودَ مَعَهُ إلى الْبَيْتِ.
- أَيْنَ تَأْتِي يا بُنَيَّ وَالرَّصاصُ يُغَطِّي الْقَرْيَةَ.
- اُنْظُرْ يا أَبي إلى قَدَمَيَّ كَيْفَ تَشَقَّقَتا.
- وَإخْوَتُكَ الصِّغارُ مَنْ يُلاعِبُهُم؟
- أُريدُ أَنْ أُحْضِرَ كُتُبي لِأَتَسَلَّى بِها: القراءَةُ الرَّشيدةُ وَرِحْلاتُ جَلِفَر والسِّنْدِبادِ الْبَحْرِي.
- حَسَنًا سَوْفَ تُحْضِرُ لِأُخْوَتِكَ كِيسَ الطَّحِينِ ، سَأَتَغَيَّبُ أُسْبوعًا لِأَنِّي مُنْشَغِلٌ وَأُخْتُكَ عَلى الْبَيْدَرِ .
فَرِحَ أَحْمَدُ بِالْعَوْدَةِ، أَفْزَعَتْهُ رَشَقاتُ الرَّصاصِ عَلى الْقَرْيَةِ، مَكَثَ أَيّامًا قَليلَةً لَمْ يَجِدْ فِيها أَوْلادًا مِنْ أَقْرانِهِ يَلْعَبُ مَعَهُمْ.
فَطَلَبَ مِنْ أَبِيهِ الرُّجوعَ إلى عَريشَةِ الزََيْتُونِ .
- قُلْتُ لَكَ يا بُنَيَّ إخْوَتُكَ بِحاجَةٍ إلى طَحِينٍ لِلْخُبْزِ، لَقَدْ جَهَّزْتُ لَكَ الْأتانَ وَعَلَيْها كِيسُ الطَّحِينِ .
- أنا جاهِزٌ يا أَبي، وَضَعْتُ كُتُبي في حَقِيبَتِي.
- الطَّريقُ مَعْروفَةٌ لَكَ، وَالسَّيْرُ جارٍ بَيْنَ الْقَرْيَةِ وَعَرائشِ الزَّيْتُونِ .
رَفَعَ أَبُو أَحْمَدَ ابْنَهُ وَأَجْلَسَهُ فَوْقَ كِيسِ الطَّحِينِ ، وَوَدَّعَهُ قائِلًا: اللَّهُ مَعَكَ يَحْفَظُكَ.
أَمْسَكَ أَحْمَدُ بِزِمامِ الدّابَّةِ جَيِّدًا وَاتَّجَهَ شَرْقًا يَحْلُمُ بِالْوُصُولِ السَّهْلِ إلى عِزْبَةِ الزَّيْتُونِ ، وَلَمْ يَدْرِي ما خَبَّأَ لَهُ الْقَدَرُ.
بَيْنَما كانَ أَحْمَدُ في مُنْتَصَفِ الطَّريقِ شَعَرَ بِتَقُلْقُلِ كِيسِ الطَّحِينِ تَحْتَهُ، ثُمَّ ما فَتِئَ حَتَّى مالَ الْحِمْلُ وَاسْتَقَرَّ تَحْتِ بَطْنِ الدّابَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ في اسْتِطاعَةِ رَدِّ الْحِمْلِ عَلى ظَهْرِ الدّابَّةِ لِثِقَلِهِ وَضَعْفِهِ. أَخَذَ يَنْظُرُ إلى كُلِّ الْجِهاتِ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا يُساعِدُهُ في رَدِّ الْحِمْلِ مَكانَهُ. وَرَبْطُهُ جَيِّدًا.
إنَّهُ مَوْقِفٌ صَعْبٌ، طِفْلٌ في الْبَرِّيَّةِ، وَأَتانٌ تَكادُ تَنْهارُ، وَليْسَ لَهُ حِيلَةٌ إلّا الدُّعاءُ وَالصَّبْرُ وَالدُّموعُ.
انْتَظرَ أَحْمَدُ طَوِيلًا وَما مِنْ أَحَدٍ.
وَفَجْأَةً سَمِعَ أَحْمَدُ صَوْتَ شاحِنَةٍ قادِمَةٍ مِنَ الْقَرْيَةِ، شُكْرًا لَكَ يا رَبُّ، مَشَى الدَّمُ في عُرُوقِ أحْمدَ. ها هِيَ السَّيّارَةُ قَدِمَتْ، أَوْقَفَ السّائِقُ السَّيّارَةَ، نَزَلَ رَجُلانِ عَدَّلا الْحِمِلَ وَأَرْكَبُوا أَحْمَدَ عَلى الْأَتانِ وَسارَ في طَريقِهِ لِيَصِلَ إلى حَيْثُ أُمُّهُ وَإخْوَتُهُ بِانْتِظارِهِ.
أَخَذَ أَحْمَدُ يَحُثُّ دابَّتَهُ عَلى الْمَسيرِ لِيَصِلَ هَدَفَهُ قَبْلَ غُروبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَتَوَقَّعْ ما يَحْدُثُ لَهُ.
نَظَرَ مَيْمَنَةً وَإذا بِرَجُلٍ نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ يَرْتَدِي قُمْبازًا شَمَّرَهُ عَنْ سَراويلَ أَبْيَضَ، يَعْتَمِرُ كُوفِيَّةً وَعِقالًا، يُمْسِكُ بِمُسَدَّسٍ تَدَلَّى مِنْ يَدِهِ وَاتَّجَهَ نَحْوَ أحْمَدْ.
تَجَمَّدَ الدّمُ في عُروقِ أَحْمَدَ. يَبْدو الرَّجُلُ أَنَّهُ قاطِعُ طُرُقٍ ، اقتَرَبَ مِنْ أَحْمَدَ وَهُوَ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً وَيَتَلَفَّتُ وَراءَهُ. لَمْ يَقُلْ شَيْئًا. ثُمَّ انْقَلَبَ راجِعًا أدْراجَهُ.
لَمْ يَعْرِفْ أَحْمَدْ لِماذا رَجَعَ الرَّجُلُ. هَلْ أَشْفَقَ عَلى أَحْمَدَ وَاصْفِرارِ وَجْهِهِ، أمْ رَأى أَحَدًا، أَوْ صَرَفَهُ دُعاءُ والِدِهِ لَهُ.
وَصَلَ أحمدْ الزَّيْتُونَةَ مَعَ الْغُروبِ، وَجَدَ أُمَّهُ وَإخْوَتَهُ بِامتِظارِهِ يَتَضَوَّرونَ جُوعًا فَاحْتَضَنَهُمْ وَقَبَّلَ يَدَيْ أُمِّهِ، وجَلَسَ يَسْتَريحُ بَعْدَ أَنْ شَرِبَ مِنْ إبْرِيقِ الْماءِ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف