بقلم...أ.د. لطفي منصور شَيْءٌ مِِنْ أَخْبارِ الطُّفَيْلِيِّينَ:

 بقلم...أ.د. لطفي منصور

شَيْءٌ مِِنْ أَخْبارِ الطُّفَيْلِيِّينَ:
.............................
أَذْكُرُ بِدايَةً اِشْتِقاقَ اسْمِ طُفَيْلِيٍّ. هُوَ مِنَ الفِعْلِ طَفَلَ، هُوَ كُلُّ مَوُلودٍ صغيرٍ مِنْ أنسانٍ أوْحَيَوانِ. نَقولُ: امْرَأَةٌ مُطْفِلٌ، وظَبْيَةٌ مُطْفِلٌ أيْ ذاتُ طِفْلٍ أو أطْفالُ. قالَ امرُوُ الْقَيسْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
تَصُدُّ وَتُبْدِي عَنْ أَسِيلٍ وَتَتَّقي
بِناظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِلِ
وكلِمَةُ طِفْلٍ يَتَساوَى فيها المذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والمُثَنَّى والجمعُ بِنَوْعَيْهِما. نَقولُ: هُوَ طِفْلٌ وَهِيَ طِفْلٌ وَهُما طِفْلٌ وَهُمْ طِفْلٌ وهُنَّ طِفْلٌ. فَفي القُرْآنِ الكريم: “أََوِ الطِّفْلِ الذينَ لَمْ يَظْهَرُوا”.
والطَّفَلُ المَطَرُ الخفيفُ؛ والطَّفَلُ آخِرُ النَّهارِ، قالَ الطُّغُرائِيُّ في لامِيَّةِ الْعَجَمِ:
مَجْدِي قَديمًا وَمَجْدِي أَوَّلًا شَرَعٌ
وَالشَّمْسُ رَأْدَ الضُّحَى كَالشَّمْسِ في الطَّفَلِ
وَالطُّفَيْلِيُّ هُوَ الذي يَدْخُلُ وَليمَةً لَمْ يُدْعَ لَها، وَهُوَ الْمُتَطَفِّلُ أَيْضًا. وكانوا يَحْتالونَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَهُمْ نَوادِرُ عَجيبَةٌ في ذَلِكَ، جاءَتْ بِها كُتُبُ الأدَبِ والنَّوادِرِ. وَمِنْها ما حَدََثَني بِهِ عَمّانِ لي - الواحِدُ مِنْهُمَا يُكْمِلُ الآخَرَ - عنْ طُفَيْلِيٍّ كانَ معروفًا لَهُما،الْتَقَيا بَهِ صُدْفَةً في مَدينَةِ نابُلُس، وكانا مَدْعُوَيْنِ عِنْدَ صَديقٍ حَميمٍ لَهُما مِنْ زُعماءِ المدينَةِ، كانَ هذا الطُّفَيْلِيُّ مُختارًا لِإحْدَى الْقُرَى الصَّغيرَةِ، فَانْدَفَعَ لِيُصافِحَها، وَسَأَلَهُما: أَيْنَ ذاهِبانِ، فاعتذرا أنَّهُما في عَمَلٍ فَتَبِعَهُما اعْتِقادًا منهُ أنَّهُما ضَيْفانِ.
كانَ المُضِيُفُ يَنْتَظِرُ ضَيْفَيْهِ خارِجَ الْمَنْزِلِ، واستَقْبَلَهُما بِحَرارَةٍ وَبَشاشَةٍ، فَإذا بِالطُّفَيْلِيِّ يَجْرِي مُسْرِعًا وَأمْسَكَ بِتَلابيبِِ المضيفِ قائِلًا لَهُ:
يا "كَرَخَنْجي ! هذانِ زَعيما بلديَيُهِما حَضَرا عَنْدَكَ وَلَمْ تُخْبِرْنِي؟!
فامْتَعَضَ المُضيفُ وقالَ لِضَيْفَيْهِ: هلْ هذا مَعَكُما لِأُرَحِّبَ بِهِ؟ قالا: لا. إنَّما الْتَقَيْنا بٍهِ في المدينَةِ صُدْفَةً.
نَظَرَ المضيفُ إلَى الطُّفَيْلِيِّ شَزْرًا وقالَ: مَنْ مِنا "الْكَرَخَنْجِي" يا ضَيْفَنُ؟ عَرَفْتُكَ الآنَ يا مُختارَ بَلَدِكَ، وَلَوْلا هَذانِ الضَّيْفانِ الْمُحتَرَمانِ لَكانَ لِي مَعَكَ كَلامٌ آخَر. فَقَهْقَهَ الطُّفَيْلِيُّ وَدَخَلَ مَعَهُما المنزلَ.
(الكرخنجي صاحِبُ الكرخانةِ كلمَةٌ فارِسيَّة معناها المُحْتَرِفُ صاحِبُ المصنَع، ومعناها سَلْبِيٌّ. يُنْظَرُ تَكْمِلَةُ الْمَعاجِمِ الْعَرَبِيَّةِ لِدوزِي ٩: ٥٨.
وَقالَ الأَصْمَعِيُّ: كانَ في الْبَصْرَةِ أَعْرابِيٌّ مِنْ بَنِي تَميمٍ، يُطَفِّلُ عَلَى النّاسِ، فَعاتَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقالَ: وَاللَّهِ ما بُنِيَتِ الْمَنازِلُ إِلّا لِتُدْخَلَ، وَلا وُضِعَ الطَّعامُ إلّا لِيُؤْكَلَ، وَما قَدَّمْتُ هَدِيَّةً فَأَتَوَقَّعَ رَسُولًا (يَدْعوني)، وَما أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ ثِقْلًا ثَقِيلًا عَلَى مَنْ أَراهُ شَحيحًا بَخيلًا (كَأَنَّ الدّافِعَ لِلتَّطَفُّلِ الانتقامُ مِنَ البُخَلاءِ وليسَ حُبَّ الطَّعامِ) أَتَعَمَّمُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنِسًا (يَلْبَسُ الْعِمامَةَ تَوْرِيَةً), وَأَضْحَكُ إِنْ رَأَيْتْهُ عابِسًا (لِيُغيظَ صاحِبِ البيتِ)، فَآكُلُ بِرَغْمِهِ، وَأَدَعُهُ بِغَمِّهِ، وَما اخْتَرَقَ اللَّهًَواتِ (جَمْعُ لَهاةٍ وهيَ فَتْحَةُ الْبُلْعُومِ) طَعامٌ أَطْيَبُ مِنْ طَعامٍ لَمْ تُنْفِقْ فيهِ دِرْهَمًا، وَلَمْ تُعَنِّ (تُخْرِجْ) إلَيْهِ خادِمًا.
حَتََى الطُّفَيْلِيُّونَ لَهُمُ أَدَبُهُمْ وَأَلْسِنَةٌ تَذُبُّ عَنْهُم بِما يُبَرِّرُ فِعْلَهُمْ، لذلِكَ رواها الأَصمَعِيُّ، وقيَّدَها لِظَرافَتِها وَفَصاحَتِها.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمُ قالَ: أَحْفَظُ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً واحِدَةً، وَمِنَ الْحَديثِ خَبَرًا واحِدًا، وَمِنَ الشِّعْرِ بَيْتًا واحِدًا. أَمّا الآيَةُ فَقَوْلَهُ تَعالَى "آتِنا غَداءَنا"، وَأَمّا الْحَديثُ فَما رَواهُ الثِّقاتُ:"إِنَّ التَّمَكُنَ عَلَى الْمائِدَةِ خَيْرٌ مِنُ زِيادَةِ لَوْنَيْنِ (مِنَ الطَّعامِ، وَمِنَ الْمُمْكِنِ أنَّ ما في كلمةِ "فَما" نافية، وَالأَغْلَبُ أنَّ الحديثَ موضوعٌ. وَأمّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ: البسيط
نَزورُكُمْ لا نُكافِيكُمْ بِجَفْوَتِكُمْ
إنَّ الْمُحِبَّ إذا لَمْ يُسْتَزَرْ زارا
(نُكافيكُمْ أصْلَها نُكافِئُكُم قُلِبَتْ الهمُزَةُ ياءً لوُقُوعِها ساكِنَةً بعدَ كَسْرٍ).
أَوْلَمَ طُفَيْلِيٌّ عَلَى ابْنَتِهِ، فَأَتاهُ كُلُّ طُفَيْلِيٍّ فَرَفَرَفَهُم، فَأَخَذَهُمْ إلَى سُلَّمٍ وَصَعِدوا إلَى غُرْفَةٍ، وَأَخَذَ السُّلَّمَ. فَلَمّا فَرَغَ مِنْ إطِْعامِ ضُيوفِهِ أنزَلَهُمْ وَأَخْرَجَهمْ.
أكْتَفي بهذا القَدرِ مِنْ أخبارِ الطُّفَيْلِيِّينَ أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ عَنّا وَعَنْكُمْ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف