بقلم أ.د. لطفي منصور هِاشمّ وَالثَّريد:

بقلم أ.د. لطفي منصور

هِاشمّ وَالثَّريد:
...................
لَعَلَّ من أَشْهَرِ مَعالِمِ الْحضارَةِ الْعَرَبِيَّةِ في الجاهليَّةِ، ذَلِكَ النِّظامُ التِّجاريُ الذي وِضَعَهَ عَبْدُ مناف، الذي وَرِثَ زَعامَةَ مَكَّةَ، بعدَ مَوْتِ أبيهِ قُصَيُّ بنُ كِلابٍ زعيمِ مكَّةََ الذي وَضَعَ مُؤَسَّساتِ الدَّوْلَةِ الْمَكِّيَّةِ وهي: دارُ النَّدْوَةِ، وهي تُعادِلُ مَجْلِسِ الشُّورى أوِ البرلمان في عصْرِنا، ثُمَّ اللِّواءُ وهوعَلَمُ أو بَيْرَقُ مكَّةَ في الْحَرْبِ، ثُمَّ السِّدانَةُ وهي خِدْمَةُ الكَعْبَةِ وحِراسَتُها، ثمَّ السِّقايّةُ، وهي سقيُ الْحَجيجِ من ماءِ زَمْزَمَ، وَالرِّفادَةُ، وهيَ إطعامُ الحجيجِ مِنَ الثَّريدِ والتَّمْرِ واللَّبَنِ والسَمْنِ وَالْأَقِطِ، وهو طعامٌ يُصْنَعُ مِنَ الْعَسَلِ والتَّمرِ والسَّمْنِ.
هذا ما كانَ في عَهْدِ قُصَيٍّ. فلَما جَاءَ ابنُهُ عَبْدُ مَنافٍ (ومَنافٌ من أصنامِهم) زادَ على أبيهِ نظامَ الإيلافِ، وهو تنظيمُ تجارَةِ مكَّةَ، وَقَدْ جاءَ ذِكْرُهُ في سورَةِ قُِريشٍ (لِإيلافِ قُريشٍ إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ). وهذه السّورةُ مُرْتَبِطَةٌ مَعَ سورَةِ الفيل التي نزَلتْ قَبْلَها، وقد كانتا سورَةً واحِدَةً لا بَسْمَلَةَ بَيْنَهُما. واللّام في كلمةِ لِإيلافِ معناها لِأجلِ إيلافِ قُرَيْشْ. فالقراءةُ كانَتْ هكذا:
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكولٍ لِإيلافِ قُرَيْشٍ) أيْ بِسَبَبِ إيلافِ قريشٍ هزَمَ المعتدينَ وهم أبرهةُ الأشْرَمُ وجيْشُهُ. أمّا إيلافٌ الثّانيَةُ فَتُعْرَبُ توكيدًا لِلْأولى.
نَظَّمَ عبدُمنافٍ تِجارَةَ مكَّةَ بِالإيلافِ. كانَ له أربعةُ أولادٍ: هاشمٌ وهو أكبرهم، وهو الجدُّ الأوّلُ للرّسول، الثاني عَبْدُ شَمْسٍ وهو جدُّ بَنِي أُمَيَّةَ، والثالثُ نَوْفَلٌ والرّابعُ الْمُطَّلِّبُ، والأخيران لم يُعْقِبا.
كانت تجارَةُ مَكَّةَ إلى الْجِهاتِ الأرْبَعَةِ وهي: الشَامُِ وكانَ يَتَوَلَّى القَوافِلَ إليها هاشِمٌ في فصلِ الصَّيف، وكانَ مُخْتَصًّا بالشّام.
الوُِجْهَةُ الثّانيَةُ إلى الجنوب أيْ إلى اليمن، وكان يتولّى القوافلَ إليها غالبًا عَبْدُ شَمْس.
الوُجْهةُ الثّالثَةُ إلى الحبشةِ في غربِ الحجاز حَيْثُ النَّجاشِيُّ يمخرون عُبابَ البحرِ الأحْمَرِ بقيادةِ أحد الأخوين نوفلٍ والمُطَّلِب.
الوُجْهَةُ الرّابعةُ إلى الشَّرق إلى العراق والمدائن حَيْثُ كسرى.
هكذا كانَ نظامُ تجارَةِ مكَّةَ، وكان لدى مكَّةَ جيشٌ لحمايةِ القوافلِ من اعتداء العُربانِ عليها.
فالإيلاف هو كتابُ الأمان أيْ التصريحُ الذي يمنحُهُ ملوكُ تلكَ البلدان للدّخولِ بأمانٍ إلى بلدانهم.
وَقَدْ عَثَرْنا عَلى وَثيقَةٍ تاريخِيَّةٍ ذَكَرَها أَبو عَليٍّ الْقالي في كِتابِهِ ذَيْلِ الْأَمالي والنَّوادر ص: ١٩٩ تَتَحَدَّثُ عَنْ عَمَلِ عَبْدِ مَنافٍ في تَنْظِيمِ تِجارَةِ مَكَّةَ، وَخُروجِ أَوْلادِهِ الْأرْبَعَةِ لِأَخْذِ كُتُبِ الْأَمانِ مِنَ الْمُلوكِ والأُمراءِ.
توَثَّقَتِ الصَّداقَةُ بَيْنَ هاشِمٍ وبينَ هِرَقْلٍ البيزنطي. كانَ الرُّومُ يشترونَ أحذيةَ جنودِهِم من قوافلِ الشّامِّ، كانَ هاشِمٌ رَجُلًا مهيبًا كريمًا، كانَ يَرَى طعامَ الرُّومِ المكوَّنَ من اللَّحْمِ والمرَقِ، يوضَعُ في صِحافٍ فيشربُهُ الآكلونَ، فدعا القيصرَ هِرَقْلًا، وصنَعَ له الثَّريدَ، وهو طعامٌ مكوَّنُ من الخبزِ والمَرَقِ والأرُز، ثمَّ يُؤْتَى بِاللَّحْمِ بالمكاسرِ ، ويوضَعُ عليْهِ لُبابُ اللَّوْزِ والجَوْزِ ونوى الصَّنَوْبَرِ، ويوضَعُ في قِصاعِ الفِضَّةِ، فأعجِبَ هرقلٌ بهذا الطّعام، وزادَتْ حُظْوَةُ هِشامٍ عِنْدَهُ.
عندما كان هشامٌ يعودُ بالقوافِلِ إلَى مكَّةَ كانَ بكَرَمِهِ يصنَعُ الثّريدَ لقومِهِ خاصَّةً في المجاعات. فقالَ الشَّاعِرُ يمدَحُهُ: من الكامل
عَمْرُو الْعُلّا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَوْمِهِ
وَرِجالُ مَكَّةَ مُسْنِتًُونَ عِجافُ
——
عَمْرٌو اسمُ هاشمٍ، وسمِّيَ هاشِمًا بهذا البيت، وهشَمَ الثَّريدَ (الذي هو المنسَف عندنا) أيْ قَسَّمّهُ.
مُسنتونَ: أصابتهمُ السَّنَةُ وهي الجَدبُ والقَحطُ،
عِجافُ: هُزالٌ وضِعاف.
كل التفاعلا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف