بقلم...أ.د. لطفي منصور حِكْمَةٌ جّدِيرَةٌ بِالنِّظَرِ:
بقلم...أ.د. لطفي منصور
حِكْمَةٌ جّدِيرَةٌ بِالنِّظَرِ:
.....................
كانَ الْمُتَنَبِّي في الْكُوفَةِ بَعْدَ أنْ هَجا كافورًا، وَهَرَبَ مِنْ مِصْرَ لَيْلًا، وَبَعْدَ مُكوثِهِ بِأَشْهُرٍ تَلَقّى كِتابًا مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَخَطِّهِ، يَسْأَلُ عَنْ حالِهِ، وَيَحُثُهُ بِاللَّحاقِ بِهِ,وَإرجاعِ الْعَلاقاتِ بَيْنَهُما إلى سابِقِ عَهْدِها، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمُتَنَبِّي بِقَصيدَةٍ مِنَ الْمُتَقارَبِ، وَهِيَ مِنْ عُيُونِ شِعْرِهِ، وَأَرْسَلَها لَهُ، وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ في مِيافارِقِين، وّهِيَ أْكْبَرُ مَدينَةٍ في دِيارِ بَكْرٍ في جَزِيرَةِ الْفُراتِ في سورِيَّةَ، وَاعْتَذَرَ الشّاعِرُِ لِأميرِهِ، خَوْفًا مِنْ عَوْدَةِ الْوُشاةِ وَالْحَسَدَةِ لِإشْعالِ نارِ الْخِلافِ بَيْنَهُما.
سَأَذْكُرُ هُنا مَطْلَعَ القصيدَةِ، وَالْأَبياتَ الَّتِي اِعْتَذَرِ فيها المُتَنَبِّي عَنِ الْعَوْدَةِ إلى حَلَبَ الْغَرّاءِ، ثُمَّ بَيْتًَ الْقَصِيدِ الَّذي فِيهِ الْحِكْمَةُ وَالتَّمْثِيلُ.
يَقُولُ الْمُتَنَبِّي مُنَ الْمُتَقارَبِ:
- فَهِمْتُ الْكِتابَ أَبًَرَّ الْكُتُبْ
فًَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ الْعَرَبْ
(جانَسَ الْمُتَنَبِّي بَيْنَ أَمْرِ وَأَمِيرِ، أَبَرَّ: أَفْعًَلُ التَّفْضِيلِ، أيْ الْأَكًْثَرُ بِرًّا وَصَلاحًا، وَالْكِتابُ الرِّسالَةُ، وَهُوَ أَيْضًا الْكِتابَةُ وَهيَ الْجَمْعُ)
- وَطَوْعًا لَهُ وَابْتِهاجًا بِهِ
وَإنْ قَصَّرَ الْفِعْلُ عَمّا وَجَبْ
(مَهْما أَطَعْتُكَ أَيُّها الْأَمِيرُ فَإنِّي مُقَصِّرٌ بِالْواجِبِ بِالْمَجِيءِإلَيْكَ. كانَ الْمُتَنَبِّي يُحِبُّ سَيْفَ الدًَّوْلَةِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلى مُلُوكِ الْأَرْضِ جَمِيعًا)
- وَما عاقَنِي غَيْرُ خَوْفِ الْوُشاةِ
وَإنَّ الْوِشاياتِ طُرْقُ الْكَذِبْ
(غَيْرُ فاعِلُ عاقّنِي، الوُشاةُ جَمْعُ واشٍ وَهُوَ النَّمّامُ الْكَذّابُ الَّذي لا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَرِيءُ،فَإنِّي أَخْشَى هَؤُلاءِ)
- وَتَكْبِيرُ، قَوْمٍ وَتَقْليلُهُمْ
وَتَقْرِيبُهُمْ بَيْنَنا وَالْخَبَبْ
(التَّقْرِيبُ وَالْخَبَبُ: نَوْعانِ مِنَ الْجَرْيِ السَّرِيعِ. قالَ امْرُوُ الْقيسِ يَصِفْ حِصانَهُ: مِنَ الطًًَّويلِ
لَهُ أَيْطَلا ظَبْيٍ وَساقا نَعامَةٍ
وَإرْخاءُ سَرْحانٍ وَتَقْرِيبُ تَتْفُلِ
الأيطَلانِ: الْكََشًْحانِ، السَّرْحان: الذِّئبُ، التَّتْفُلُ: الثَّعْلَبُ)
يَقُولُ المُتَنَبِّي: وعاقَنِي أَيْضًا خَوْفُ تَكْثِيرِ قَوْمٍ مَعايِبِي، وَتِقْليلُهِهِمْ مَناقِبي)
ثُمَّ يَمْدَ حُهُ فَيَقُولُ:
- وَما لاقَنِي بَلَدٌ بَعْدَكُمْ
وَلا اعْتَضْتُ مِنْ رَبِّ نُعْمايَ رَبّْ
(لاقَني: أَعْجَبَنِي، اعْتَضْتُ: عُوِّضْتُ)
ثُمَّ نَأْتي إلى بَيْتِ الْقَصيدِ في نَظَرِي: وَهُوَ قِمَّةُ التَّشْبيهِ وَالْمَدِيحِ وَهُوَ:
- وَمَنْ رَكِِبَ الثَّوْرَ بَعْدَ الْجَوا
دِ أَنْكَرَ أَظْلافَهُ وَالْغَبَبْ
(شَبَّهَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بِالْجَوادِ السَّرِيِعِ، وَسائِرَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ عَرَفَهُمْ بِالثِّيرانِ. وَهذا الْمَثَلُ يُضْرَبُ لَمَنْ يَكُونُ في الْمعالي ثُمَّ يِسْتَبْدِلُ مَكانَتَهُ هَذِهِ بما هِيَ أَدْنَى.
لَكِنَّ الْوَزِيرَ الصّاحُبَ بْنَ عَبّادٍ (ت ٣٦٠ هج) الَّذي رَفَضَ الْمُتَنَبِّي أَنْ يَمْدَحَهُ، لِأَنَّهُ كانَ يَتَرَفَّعُ عَنْ مَدْحِ غَيْرِ الْمُلُوك، قَدْ عابَ عَلى المُتَنَّبِي استِعْمالَ الْفِعْلِ “رَكِبَ” لِأَنَّهُ لا يَليقُ بِالْمُلُوكِ. الْغَبَبُ: ما تَدَلَّى مِنَ الْجِلْدِ مِنْ عُنُقِ الثَّوْرِ)
إلى هُنا.
تعليقات
إرسال تعليق