بقلم...أ.د. لطفي منصور الْغُلامُ الشّاعِرُ:

 بقلم...أ.د. لطفي منصور

الْغُلامُ الشّاعِرُ:
....................
قَرَأْتُ فِيما مَضَى مِنْ أَخْبارِ الشُّعَراءِ حاضِري الْبَدِيهَةِ، في كِتابِ "بَدائِعِ الْبَدائِهِ" لِعَلِيِّ بنِ ظافِرٍ الْأَزْدِيِّ (ت ٦١٣ هج)، نَقْلًا أبي الْفَضْلِ ابن فتوح الْمِصْري قالَ: سَكَنْتُ بِدارٍ في الْخِطَّةِ المَعْروفَةٍ بِدُوَيْرَةِ خَلَف، فَرَأَيْتُ جَميعَ جُدْرانِ الْمَنْزِلِ مَكْتُوبَةً بِأَخْبارٍ بَدِيعَةٍ، وَأَشْعارٍ مُسْتَحْسَنَةِ السَّبْكِ، وَوَجَدْتُ في جُمْلَتِها: "لَمّا دَخَلْتُ بَجَايَةَ (مدينَةٌ غَرْبَ الْجَزائرِ مَشْهورَةٌ) عِنْدَ عُبُوري (مِنَ الأنْدَلُسِ إلَى أَفْريقِيَّةَ) اِجْتَزْتُ في بَعْضِ الْأَيّامِ بِصَدِيقٍ لِي مِنَ الْمُعَلِّمينَ، وَهُوَ في مَكْتَبِهِ (أَيْ كُتّابِهِ) وَصِبْيانُهْ قَدْ حَفُّوا بِهِ. فَأَحْضَرَ صَبِيًّا مِنْهُم، وَقالَ لِي: اِخْتَبِرْهُ فَإنَّهُ يَقُولُ الشِّعْرَ الْجَيِّدَ، فَقُلْتُ لَهُ أَجِزْ: (أَيِ انْظُمْ عَجُزًا لِلصَّدْرِ لِيُصْبَحَ بَيْتًا كامِلًا)
وَشادِنٍ ذِي شِطاطِ
فَقالَ:
حَجِّي لَهُ وَرِباطِي
فَقُلْتُ:
مُوَكَّلٌ بِضَمِيري
فَقالَ:
مُعَلَّقٌ بِنِياطِي
(البيتانِ مِنْ مَجْزُوءِ الْخَفيفِ. الشّادِنُ: الْغَزالُ الَّذي اسْتَغْنَى عَنْ أُمِّهِ؛ الشِّطاطُ: الشَّغَبُ؛ حَجِّي … أيْ أهْديهِ ثَوابَ حَجِّي وَرِباطَ خَيْلي؛ مُعَلَّقٌ … أيْ لا يَغيبُ عَنْ ذِهْنِي؛ النِّياط: حِبالُ الْقَلْبِ كِنايَةٌ عَنِ الْحُبِّ).
قالَ ابْنُ فتوحٍ: فَعَجِبْتُ مِنْ حُسْنِ بَديهَتِهِ، مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ، ثُمَّ تَمادَى الأَمْرُ؛ وَشَبَّ الصَّبِيُّ، وَاشْتُهِرَ بِقَوْلِ الشِّعْرِ، فَنُمِيَ إلَى الأميرِ تَميمِ ابْنِ الْمُعِزِّ الفاطِمِي (الشّاعِرُ الكبيرُ صاحِبُ اللَّهْوِ والمُجونِ والشِّعْرِ الرَّقِيقِ، تُوُفيَ سنةَ ٣٧٤ هج) أَنَّهُ هَجاهُ، وَأَنَّهُ قالَ فِيهِ: من الْخَفيف
بَلَدٌ مُظْلِمٌ وَمَلْكٌ ظَلُومُ
وَهُما فَيْحُ حُمَّةٍ وَتَمِيمُ
هُوَ فيها كَمالِكٍ وَالْمُقِيمُو م
نَ بِها الْمُجْرِمُونَ وَهْيَ الْجَحِيمُ
(الْفَيْحُ: ريحُ جَهَنَّمَ؛ وَمالِك: من خَزَنَةِ جَهَنَّمَ)
فاسْتَحْضَرَهُ السُّلْطانُ وَاسْتَخْبَرَهُ عَمّا قالَ فِيهِ فَأَنْكَرَهُ وَقالَ: إنَّما قُلْتُ: الْوَزْنُ نَفْسُهُ
عَرِّجا بِي فَذا مُناخٌ كَرِيمٌ
هَذِهِ حِمِّنَّةٌ وَهَذا تَميمُ
هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتي وَعَدَ ال
لَّهُ وَهَذا صِراطُهُ الْمُسْتَقِيمُ
فَاسْتَظْرَفَهُ تَمِيمٌ وَاسْتَلْطَفَهُ وَأَكْرَمَهُ ثُمَّ صَرَفَهُ.
وَمِثْلُ هذا وَقَعَ لِأَبي نُواسٍ مَعَ الرَّشيدُ، فَقَدْ نُمِيَ إلَى الأَخيرِ أَنَّ أبا نُواسٍ نَديمَهُ قَدِ اسْتَقَلَّ عَطاءَهُ، فَهَجاهُ وَقالَ فِيهِ: مِنَ الْمُتَقارَب
لَقَدْ ضاعَ شِعْرِي عَلَى بابكُمْ
كَما ضاعَ عِقْدٌ عَلَى خالِصَةْ
فَغَضِبَ الرَّشِيدُِ واسْتَدْعاهُ وَاسْتَخبَرَهُ، فَأَنْكَرَ وَقالَ: إنَّما قُلْتُ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ:
لَقَدْ ضاءَ شِعْرِي عَلَى بابِكُمُ
كَما ضاءَ عِقْدٌ عَلَى خالِصَةْ
فَسُرْعَةُ الْخاطِرِ تِنْجي مالِكَها في الْمَواقِفِ الْحَرِجَةِ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أسراب نحيب... بقلم...عماد عبد الملك الدليمي

✿✿✿✿((لاتيأسْ))✿✿✿✿ بقلم...عدنان الحسيني

رحيل عبر الأثير... بقلم... دنيا اليوسف