مُروجُ الْعِشِقِ: قَصيدَة لِلشَّاعِرَةِ الْمُبْدِعَةِ... مَقْبولَة عبدِ الْحَليم. قِراءَة بروفيسور أماريتوس لطفي مَنْصور
مُروجُ الْعِشِقِ:
قَصيدَة لِلشَّاعِرَةِ الْمُبْدِعَةِ... مَقْبولَة عبدِ الْحَليم.
قِراءَة بروفيسور أماريتوس لطفي مَنْصور
.....................................
قَصِيدَةٌ غَزَلِيَّةٌ عَلَى بَحْرِ البَسيطِ، في رِقَّةِ الْحَريرِ الدِّمَقْسِ، تَنْضَمُّ ةإلَى قَصائِدِ الْغَزَلِ الْخالِدَةِ في الشِّعْرِ الْعَرَبِيِّ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَمِنَ الْجَدِيرِ ذِكْرُهُ أَنَّ هَذا اللَّوْنَ مِنَ الشِّعْرِ -كَما هوَ في دَيباجدَةِ القَصِيدَةِ الّتي نَحْنُ بِصَدَدِها - أَصْبَحَ قَليلًا في عَصْرِنا، بِهَذا السُّمُوِّ، وَإتْقانِ النَّظْمِ، وَاخْتِيارِ الأَلْفاظِ الْمُفْعَمَةِ بِالْحُبِّ والرَّنِينِ الموسيقِيِّ. وهو لَوْنٌ تَعْشَقُهُ النُّفُوسَ، وَتُصْغِي إلَيْهِ الآذانُ، وَتَهْتَزُّ مِنْهُ الْمَشاعِرُ طَرَبًا.
تَتَكَوَّنُ الْقَصِيدَةُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ بَيْتًاْ:
- أَمْضِي وَقَلْبِي مَشُوقٌ فِيكَ بَلْ دَنِفُ
بَحْرٌ حَنِينِي وَلَكِنْ سَوْفَ أَنْصَرِفُ
هَذا البيتُ مَطْلَعُ الْقَصِيدَة وَفيهِ التَّصْريعُ الْجَمِيلُ عَلَى عادَةِ القُدَماءِ. فَجاءَ في الْعَروضِ دَنِفُ، وَجاءَ في الضَّرْبِ صَرِفُ مِنْ كَلِمَةِ أَنْصَرِفُ. يَقَعُ هَذا الْبَيْتُ في دائِرَةِ ىالإخْبارِ، لِأنَّهُ الْمَطْلَعُ. تُخْبِرُنا الشَّاعِرَةُ أَنَّها ماضِيَةٌ في طَريقِها أَوْ فِكْرِها، وَقَلْبُها مَثْقَلٌ بِالشَّوْقِ بَلْ دَنِفٌ. وَالدَّنَفُ هوَ المَرَضُ الَّذِي سَبَبُهُ الْعِشْقُ. ثُمَّ تُتابِعُ الْخَبَرَ وَتَقُولُ: الْحَنينُ عِنْدِي - لِلْمَعْشُوقِ - كَالْبَحْرِ؛ لَكِنَّنِي سَأَنْصَرِفُ عَنْ هّذا التَّوْقِ وَالْحَنينِ. بَيْتٌ في قِمَّةِ الْجَمالِ يَصِفُ الْحالَةَ النَّفْسِيَّةَ لِلشَّاعِرِةِ عِنْدما نَظَمَتِ القَصيدَةَ، هذا الزَّمانُ، أمَّا المكانُ فهوَ طَريقُ أَفْكارِها.
- تَبْدُو سَرابًا مُروجُ الْعِشْقِ داكِنَةً
هَلْ تَرْتَضِينِي عَلَى أَطْلالِها أَقِفُ
الإخْبارُ هُنا أَنَّ بِيئَةَ هذا الْعِشْقِ زَيْفٌ وَوَهْمٌ، وَوَظَّفَتِ الشَّاعِرَةُ شاهِدَيْنِ عَلَى خَيْبَتِهِ. الأَوَّلُ لَوْنُ الْمُروجِِ التي كانَتْ خَضْراءَ ناضِرَةً أَصْبَحَ قاتِمًا. والثَّاني تَناصٌّ جَمِيلٌ اسْتَلَّتْهُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى ىالأَطْلِالِ، وَبُكاءِ الدِّيارِ، وَعَرَّجَتْ بِنا إلَى النَّسيبِ مَقْرونٍ بِاسْتِفْهامٍ أِنْكارِيٍّ هَزَّ وِجْدانَنَا: هَلْ تَقْبَلُ أَيُّها العاشِقُ أنْ أَقِفَ عَلَى أَطْلالِ هَذا الْحُبِّ؟!
وَسَرْعانَ ما يَأْتِي الْجوابُ الْمُفْحِمُ في الْبَيْتِ لبثّالِثِ
- لا. لَسْتُ أَرْضَى طَريقًا صِرْتَ تَسْلُكُهُ
فِي حُبِّ غانِيَةٍ تَلْهُو وَتَنْشَغِِفُ
اُنْظُرُوا إلَى هَذا التَّرابُطِ في الْقَصِيدَةِ، وهذا ما نَطْلُبُهُ في القَصِيدِ. ثَلاثَةُ أَبْياتٍ تُشَكِّلُ وَحْدَةً لا يَنْفَصِمُ عُراها، وارْتِباطُها بما بَعْدَها أَشَدُّ وَأَقْوَى.
هذا مَسْلَكٌ طارئٌ مِنْكَ أَيُّها الْمَجْهُولُ، لَسْتُ غانِيَةً تَلْهُو بِها تُصِيبُ شِغافَ قَلْبِكَ، وَلَيْسَ هَذا عِشْقًا أَعْرِفُهُ ىمِنْكَ.
- إنِّي الْجَمِيلَةُ لا إنْسٌ يُشابِهُهَا
وَمِثْلُهُ الْجِنُّ، إذْما أَشْرَقَتْ خُسِفُوا
هذا البَيْتُ جاءَ جَوابًا يَدْحَضُ فِكْرَةَ الْعاشِقِ عِنِ الْحُبِّ الْحَقيقيِّ، وَيَصِفُ شَخْصِيَّةَ الشَّاعِرَةِ الصَّارِمِةَ: "إنَّي الْجَمِيلَةُ" التي انْفَرَدَتْ عَنِ الأِنْسِِ وَالْجِنِّ بِبَهائِها، فَإذا تَجَلَّتْ انْخَسَفُوا. لا تَحْسَبْ أَيُّهَا القارئُ أنَّ الصُّورَةَ الشِّعْرِيَّةَ هُنا لِلْجَمالِ الْمَحْسوسِ؛ بَلْ لِوَهَجِ الْقَصيدَةِ وَالشِّعْرِ الذي لا يَأْتِي بهِ إنْسٌ وَلا جانٌ. أَشْرَقَت فيها اسيتعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. فالجَمِيلَةُ هي الشَّمْسُ الْمُشَبَّهُ بِهِ المحذوفُ، والقَرينَةُ أَشْرَقَتْ، فَأَيُّ جَمالٍ ىيَفيضُ ىمِثْلَ هَذَا؟؟؟
- بَعْضُ الرِّجالِ لَهُمْ بِالْحُبِّ تَسْلِيَةٌ
فِي كُلِّ قَلْبٍ لَهُمْ قَدْ زُيِّنَتْ غُرَفُ
حِكْمَةٌ جَمِيلَةٌ، هَؤُلاءِ الرِّجالُ لا يَعْرِفُونَ الْعِشْقَ، وَإنَّما يَرَوْنَهُ لَهْوًا، وَصَرْفًا لِلْوَقْتِ. الشَّطْرُ الثّانِي "زُيِّنَتْ لَهُمْ غُرَفٌ" تَعْبيرٌ في غايَةِ الْبَلاغَةِ وَالْجَوْدَةِ، وَسَرْحِ الْخَيالِ، لِلَّهِ دَرُّكِ أَيَّتُهَا الْمَقْبولَةُ!!!
وَتَسْتَمِرُّ الشَّاعِرَةُ في وَصْفِ الْحُبِّ النَّقِيِّ، وَتَنْحُو بِاللّائِمَةِ عَلَى مَنْ لا يَفْهَمونَهُ
مِنَ الأَشْقِياءِ فتَقولُ:
- لَنْ تَأْسِرَنِّي إذا ما جِئْتَ تَسْحَرُنِي
مِنْ خَمْرِ حُبِّكَ، لا. ما عُدْتُ أَغْتَرِفُ
الشَّاعِرَةُ تَعْرِفُ بِدِقَّةٍ الفَرْقَ بَيْنَ الْعَرَضِ والْجَوْهَرِ، وَالْفَرْقَ بَينَ اللْغَثِّ والسَّمينِ، لَنْ تَقَعَ ضَحِيَّةَ الْوَهْمِ، وَلَنْ تَشْرَبَ شُرْبَ الْهِيمِ، بِلْ تَنْهَلُ وَتُعَلُّ، وَتَعْرفُ مَا تَأْخُذُ مِنَ الْبَيانِ وَما تَتْرُكُ. وَشِعْرُها يُوحِي بِذَلِكَ صَفاءً وَنَقاوَةً.
- تَنْتَقِلُ بِنا الشّاعِرَةُ إلَى تَهْيِئَةِ الأجْواءِ إلَى هَذا الْمارِقِ الشَّارِدِ لِتَرُدَّهُ إلَى واقِعِهِ، وَتَكْشِفُ لَهُ عَمَّا يَنْتابُها مِنْ حُزْنٍ لِابْتِعادِهِ فِكْرِيًّا عَنْها. فَشِعْرُها يُوحِي بِهَذا لو تَبَصَّرَه، فَهْيَ تَنْحُو بِقافِيَتِها نَحْوَ شُعورٍ غيْرِ مُرْضٍٍ.
وَهُنا يَبْدَأُ فَصْلٌ جَدَيدٌ، لَوْ لَمْ تَقُلْهُ الشَّاعِرَةُ لَفَقَدَتْ شَيْئًا مِنْ أُنوثَتِها الَّتي هيَ الْكَمالُ الإلَهِيُّ الّذي وَهَبَها اللَّهُ.
- عُدْ لِلْهَوَى طَرِبًا بِالشِّعْرِ تَغْمُرُنِي
ماذا أَقُولُ ؟ وَماذا أَصِفُ؟
هُنا استَبانَ لَنا هذا الْعاشِقُ الْغائِبُ الَّذي فارَقَها زَمَنًا، فَأَخَذَتْ تُناجيه، وَتَسْتَحِثُّهُ بِالْعَوْدَةِ، لِيَغْمُرَها شِعْرًا حَقيقِيًّا، ما هو إلّا شِعْرُ الْغَزَلِ الرّاقي، وَما هَذِهِ الْقَصِيدَةُ إلَّا مِثالٌ لَهُ.
- مَثْوًى سَأَبْقَى لِقَلْبٍ أَنْتَ تَمْلِكُهُ
يَقْتادُهُ الْعِشْقُ وَالأَشْواقُ وَاللَّهَفُ
هذا عَهْدٌ بَيْنَ الشَّاعِرَةِ وَشِعْرِها، فَقَدْ جَعَلَتْ قَلْبَها مَسْكَنًا لَهُ، مَضْمُونُهُ الْعِشْقُ ىوَالأَشْواقُ وَالتَّلَهُّفِ لِلِقاءِ الْحَبيب. وهذا هُوَ الشِّعْرُ يَدْعَمُنِي قَوْلُ جَرِيرٍ: "هذا الَّذي أَرادَتْهُ الشُّعَراءُ فَأَخْطَأَتْهُ، وَتَعَلَّلَتْ بِوَصْفِ الدِّيار".
وَالآنَ ثَلاثَةُ أَبْياتٍ يَتَصَدَّرُها الْفِعْلُ: "تَمْضِي" تُنْهِي القَصِيدَةَ:
- تَمْضِي وَفِي فَمِها صَوْتٌ يُهامِسُها
قَدَّمْتُ قَلْبِي فَهَلْ بِالْوُدِّ يَعْتَرِفُ؟
- تَمْضِي وَتَكْتُبُنِي لِلْحُبِّ أُغْنِيَةً
وَالْحِسُّ في عَزْفِها يَحْتاجُهُ الرَّهَفُ
- تَمْضِي وَعَيْنايَ بِالإكْبارِ تَتْبَعُها
ما أَعْظَمَ الْعِشْقَ حَتَّى لَوْ بِهِ اخْتَلَفلُوا
الفاعِلُ لِتِلكُمُ الأَفْعالِ ىالثَّلاثَةِ هو الشِّعْرُ الذي تُخاطِبُهُ، والضميرُ في الفِعْلِ تَتْبَعُها يَعُودُ إلَى الأُغْنِيَةِ، وَقَدْ فَرَشَتْ لِلشِّعْرِ قَلْبَها وَحَناياها، وَأَصْبَحَ أُغْنِيَةً تَهْمِسُ بِها وَتُرَدِّدُها، فَهِيَ الشِّعْرُ وَالْحُبُّ، وهُما هِيَ.
البيْتُ الثَالِثُ هوَ بَيْتُ الْقَصيدِ، وهو البُؤرَةُ التي شُدَّتْ إلَيْها خُيوطُ القصيدَةِ كُلِّها. ما أَعْظَمَكِ شاعِرَتَنا بهذا الإبْداعِ، يا زَيْتونَةَ فِلِسْطِينَ، وَنَخْلَةَ غَوْرِ الأُرْدُنِّ، دُمْتِ لِلشِّعْرِ الرّاقِي أُغْنِيَةً يُرَدِّدُها كُلُّ ثَغْرٍ، وَلِلْعَرَبِيَّةِ رافِدًا مُثْرِيًا وَزينَةً نَفْتَخِرُ بِها دائِمًا. وَإلَى اللِّقاءِ في قَصائِدَ أُخْرَى.
وَأَنا أُجْزِمُ قائِلًا: ما أَعْظَمَ الشِّعْرَ وَالْعِشْقَ يًَخْرُِجانِ مِنْ ثَغْرِ زَيْتُونَةِ فِلِسْطينَ، وَنَخْلَةِ ضِفافِ غَوْرِ الأُرْدُنِّ الْفِلِسْطِينِيِّ الشَّاعِرَةَ مَقْبولة عَبْدُ الْحَليم.
لطفي منصور
تعليقات
إرسال تعليق